صلاح الدين عووضة يكتب : الكف!
صلاح الدين عووضة يكتب : الكف!
جُنت البلدة..
كانت في حالة جنون حين زارها وجدي – وهو أحد أبنائها – من بعد غيبة..
وفي غيابه هذا نال درجة الماجستير في علم النفس..
أما سبب جنون البلدة فهو صديق طفولته – ودراسته الأولية – حسن جارة..
وكان قد رجع للبلدة قبله من الهند… ثم رومانيا..
وذلك بعد تخصصه في علمٍ نادر حسب زعمه… أو قوله..
وهو علم الكف… أو قراءة الكف… أو معرفة الغد من خطوط الكف..
وفور عودته أخذ يُطبِّق علمه هذا على أكف الناس..
يقرأ خطوط كف الواحد… منهم ثم يخبره بأنه سوف يحدث له كذا وكذا..
وفي البدء تعامل الناس مع علمه هذا بسخرية..
واعتبروه مصدر فكاهة – وتسلية – تكسر جدار روتين حياتهم الرتيبة..
ثم بعد أن صدق توقعه مرتين انزعجوا..
فقد قرأ كف خيري وقال له إن خط العمر عندك ينتهي بنهاية حصاد القمح..
وبعد الفراغ من الحصاد أسلم خيري الروح..
صحيح هو لم يقل ذلك بأسلوب مباشر – وصادم – ولكن هكذا فهم خيري..
وفهم من كانوا حضوراً وقتذاك..
وقال لحاجة سيدة إن حفيدةً لها ستغادر البلدة بعد زواجها من غريب..
بمعنى أنه ليس من أهل البلد..
فضحكت الحاجة – ساخرةً – ونسيت الأمر..
فحفيداتها الثلاث لسن ذوات حظوة من جمالٍ يلفت أنظار الغرباء..
بل لم يلفت حتى أنظار كثيرين من شباب البلدة..
وبعد نحو شهرين فاجأ ضابط المجلس ابن سيدة بطلب يد بنته رقية..
وفُوجئت بذلك والدته – وجدة رقية – الحاجة سيدة..
وتم الزواج بعد شهرين آخرين..
ولم يمض أسبوعٌ على انتهاء مراسم الفرح حتى تلقى الضابط خطاب نقل..
وغادر إلى عطبرة برفقة حفيدة حاجة سيدة..
وهنا بدأ سكان البلدة – والبلدات المجاورة – يبدون اهتماماً بقارئ الكف..
وطفقوا يتقاطرون على ابن جارة زُرافاتٍ ووحدانا..
وفي هذا الأثناء حل وجدي بالبلدة… وذُهل من انشغالها بحسن هذا..
أو ببدعته كما سماها..
فهو يعتبر قراءة الكف ضرباً من الدجل… والشعوذة… والخرافة..
مثلها – في ذلك – مثل قراءة الفنجان..
وشمَّر عن ساعد جِد ما اكتسبه من علمٍ – نفساني – لدحض هذه الخزعبلات..
غير أنّ جهوده كلها راحت سدىً..
فلم يعبأ بها سوى صالح إمام المسجد… وحسين ناظر مدرسة البلدة..
فضلاً عن الحاج… الموسوم بالشيوعي..
وكان بعض أهل البلدة يسخرون من اسمه هذا..
ويقولون له: سُميت الحاج ولكنك لن تحج… ولا تعترف بالحج أصلاً..
فلما أعيت وجدي الحيلة دعا إلى مُواجهة حاسمة..
إلى مُواجهة – أو مبارزة كما أُطلق عليها – بينه وبين حسن جارة..
مُواجهة يتحدى فيها غريمه أن يقرأ كفه..
ثم أن تصدق القراءة هذه… شريطة أن يختار نبوءةً ذات تاريخ قريب..
وكان اليوم الموعود… وحُشر الناس ضحى..
أو حشروا هم أنفسهم… وجاءوا من كلٍّ فج عميق في البلدة وما جاورها..
وقبل حسن جارة التحدي… بكل روح تحدٍّ..
وقبض على كف وجدي يطالع خطوطها – بتؤدة – وسط صمتٍ عميقٍ..
وما كان يُسمع – حينها – إلا تلاحق الأنفاس..
وبعد برهةٍ – بدت للجميع دهرا – نطق حسن وهو ينظر في عيني وجدي..
ينظر فيهما عميقاً… ودون أن يطرف..
وقال باقتضاب: أسمعني جيداً يا وجدي… أنت ستقتل… وستكون قاتلا..
وعمّ الذهول الحاضرين جميعاً… فوجموا..
فما من أحدٍ منهم صدّق أن وجدي يمكن أن يقتل نفساً في يوم من الأيام..
وسحب وجدي كفه سريعاً من يد حسن..
ثم رفعها وهوى بها على وجه حسن بسرعة البرق… وهو يرتجف غضباً..
فوقع مغشياً عليه… وهُرع به إلى الشفخانة..
وضرب محمود الباشحيكم كفاً بكف… بعد فحصه ابن جارة ملياً..
وهمهم قائلاً: هذه ضربة لا تقتل..
ومات قارئ الكف..
بالكف!.
المصدر : الصيحة