إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة السلام في السودان و مفاجأة الإسلاميين

إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة السلام في السودان و مفاجأة الإسلاميين
بدأ واضحًا أن الحرب في السودان تدخل طورًا جديدًا لصياغة مسار جديد للسلام. فقد استطاعت المملكة العربية السعودية بثقلها و موقعها وتوازن علاقاتها، أن تستعيد دورها الذي بدأته في مايو 2023 وتقدم صيغة أكثر واقعية لإنهاء الحرب التي أنهكت الدولة والمجتمع والمنطقة.
العودة الأمريكية التي اعلنها الرئيس ترامب جاءت بعد ان أدركت إدارته بأن ترك الساحة لقوى إقليمية مختلفة لن يفضي إلى استقرار، وبأن منصة جدة ، تظل الإطار الأكثر قبولًا وحيادًا. وهكذا بدأ أن الرياض وواشنطن تتحركان اليوم بشراكة قائمة على “استعادة التوازن”، وتقديم الحلول.
غير أن نجاح هذا التحرك مشروط بأربعة مرتكزات رئيسية: أولًا: العودة الصريحة إلى مسار جدة 2023 بوصفه المرجعية التفاوضية الوحيدة التي حازت اعترافًا دولياً وإقليميًا.
ثانيًا: إصلاح مؤسسة الوساطة الأمريكية بإسناد الملف للخارجية الامريكية لما لها من تجارب سابقة في الملف السوداني، فالمشكلة لم تكن في غياب الحضور الأمريكي، بل في طبيعة هذا الحضور، وأبرزها في شخص المستشار مسعد بوليس ، الذي اعتُبر حضوره عائقًا بسبب تراجع حياده في أعين الأطراف السودانية.
لذلك أصبح استبعاده خطوة أساسية، مع تعيين مبعوث أمريكي جديد يتمتع بصلاحيات تنفيذية واضحة، مستقل عن النفوذ الإقليمي ومرتكز على فريق دعم فني وسياسي متخصص، لضمان حياد الوساطة وفاعليتها. هذا التغيير يعيد للولايات المتحدة دورها كضامن للعملية التفاوضية ويمنح الأطراف السودانية ثقة حقيقية في التزام واشنطن بتطبيق ما يتم الاتفاق عليه.
ثالثًا: ربط السلام بحوافز اقتصادية ملموسة، تعويضات الضحايا وإعادة الإعمار البنية التحتية ودعم المناطق المنكوبة.
رابعًا: الاعتراف بسردية الحرب كما تراها الدولة السودانية وكما أقرتها مؤخرآ الامم المتحدة على لسان المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك. : حرب بالوكالة و تمرد مسلح مدفوع بطموحات خارجية للسيطرة على الموارد الطبيعية للبلاد.
هذه الأسس لا تصوغ مقاربة تفاوضية فقط، بل تحفظ توازنات الدولة السودانية وسيادتها ، وتمنع تمييع حقيقة الصراع أو مساواة الجيش بالتمرد.
التطور الأهم في المشهد يتمثل في اتساع دائرة الترحيب السوداني بالمبادرة السعودية – الأمريكية، وهو تحول سياسي لافت يمنح المسار الجديد قوة دفع لم تتوفر لأي مبادرة منذ اندلاع الحرب.
فقد أعلنت مليشيا الدعم السريع رسميًا ترحيبها بالمبادرة ووصفتها بالجيدة، في إشارة واضحة إلى استعدادها للانخراط في عملية تفاوضية جادة، بعد شهور من التصعيد العسكري والانتهاكات التي أثقلت كاهل المدنيين.
كذلك بدأ المشهد أكثر تفاؤلا حين صدرت مواقف داعمة من أغلب القوى السياسية السودانية، بما فيها أحزاب تاريخية وكيانات مدنية مؤثرة، معتبرة أن التحرك السعودي – الأمريكي هو المسار العملي الوحيد القادر على وقف نزيف الحرب في البلاد.
أما المفاجأة الأبرز فكانت موقف الحركة الإسلامية السودانية التي نظر كثيرون إليها على أنها لا ترغب في وقف الحرب وتدفع باتجاه الحسم العسكري. إلا أن بيانها الأخير، بتوقيع أمينها العام علي كرتي، قدّم قراءة مختلفة تمامًا. فقد عبّرت الحركة عن تقدير بالغ للمبادرة السعودية، ووصفت تحرك ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بأنه “مسعى حميد” يعيد الاعتبار لصوت الحق، ويحمي السودان من أجندات خارجية تسعى لنهب موارده وتقسيم ترابه.
كما أكدت التزامها بسلام عادل يصون كرامة الشعب السوداني ويرفض كل تدخل يستهدف إضعاف الدولة. هذا التحول في موقف الحركة الإسلامية، وهي أحد أكثر الفاعلين تأثيرًا في المزاج السياسي والاجتماعي السوداني، يعكس تبدّلًا عميقًا في مقاربة الحرب، وانتقالًا من منطق “الحسم العسكري” إلى منطق “الاستقرار المشروط”، ما يمنح المبادرة السعودية – الأمريكية مظلة قبول سياسيًا واجتماعيًا لم تكن متاحة من قبل.
وعلى ضوء هذا الحراك والقبول الداخلي، يتوقع أن تتجه الرياض وواشنطن نحو خطوات عملية تشمل: هدنة إنسانية عاجلة لثلاث أشهر للترتيبات الأمنية والإنسانية بضمانات مراقبة دولية تعقبها هدنة أخرى للمسار السياسي لإنجاح الحوار السوداني السوداني بمظلة إقليمية قد تستوجب إدخال أطراف مثل تركيا وقطر ومصر والاتحاد الإفريقي.
ورغم كل هذا التفاؤل، يظل الطريق محفوفًا بتعقيدات محلية وإقليمية، من تشظي القوى المتمردة ، وتعدد مراكز القرار داخلها، وتضارب مصالح دول الجوار، وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية. ومع ذلك فإن المبادرة الراهنة تمثل الفرصة الأكثر واقعية منذ اندلاع الحرب، فهي تجمع غطاء دوليًا، وإرادة سعودية قوية، واستعدادًا سودانيًا، لقبول مسار تفاوضي منصف للشعب السوداني والسيادة الوطنية ومفضي لسلام مستدام.
هذا وبحسب #وجه_الحقيقة فإن السودان اليوم على مفترق تاريخي: إما سلام يعيد بناء الدولة، أو استمرار حرب تستنزف الموارد الاقتصادية والشعب. لذلك المبادرة السعودية –الأمريكية، بما حازت عليه من ترحيب واسع، وبإعادة بناء الوساطة الأمريكية على أسس حيادية وفاعلية، قد تكون الجسر الأخير قبل الهاوية، وأفقًا جديدًا يعيد لهذا الوطن مكانته وكرامته واستقراره بعد سنوات من الحرب والنزيف المستمر.
دمتم بخير وعافية.
Shglawi55@gmail.com





