محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء وتدبر..”حكومة الأمل”… أمل كبير وواقع مخيف

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء وتدبر..”حكومة الأمل”… أمل كبير وواقع مخيف
هل يبدأ الشعب السوداني العد التنازلي لفقدان الثقة في حكومة د. كامل إدريس التي مازالت في مخاض الولادة العسير ؟ ربما !! لأن الحكومة لا تعني اشخاص الوزراء سواء أجاءوا بمحاصصة أم بغيرها أم كانوا تكنوقراط أم ساسة محترفين . الحكومة في المقام الأول هي
(البرنامج) الذي على هداه يعمل الوزراء وهي السياسات ذات النهج الواضح التي ينفذها الوزراء . فمجلس الوزراء اسمه الجهاز التنفيذي للدولة .. الذي (ينفذ) السياسات .
ففي أعقاب إعلان الدكتور كامل إدريس عن ملامح حكومته المقبلة، موسومةً بـ”حكومة الأمل”، استبشر كثير من الناس خيراً بمقدم شخصية علمية لها تاريخ دولي في العمل المؤسسي.
غير أن استبشار الأمل لا يعني تعليق العقل، ولا تعطيل ميزان التقييم الجاد الصارم. فالسودان اليوم ليس في رفاهية الانتظار أو المجاملة، بل هو أمام مفترق طرق حاسم: إما انطلاقة كبرى تنقذه، وإما ضياع جديد بأقنعة مهذبة.
لا شك أن الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء وحدد فيه ملامح وزارته اتسم بنبرة أخلاقية راقية، وأصاب في تشخيص عدد من أدوائنا القديمة، مثل غياب الكفاءة، تفشي الفساد، انعدام العدالة في توزيع السلطة والثروة،
التعصب الجهوي والحزبي، والجهل بكليات الدين.
وهي إشارات مهمة، تُحسب له، وتُظهر وعياً سياسياً لا يُستهان به.
لكن عند النظر في مضمون الخطاب من زاوية المنهجية العلمية والرؤية الاقتصادية والإدارية العميقة، يبرز النقص الواضح.
فالواقع السوداني بات يصرخ بالحاجة إلى سياسات كلية تخرجه من وحل التردي لذي هو فيه وتحل مشكلة الإقتصاد وتضبط أداء الدولة دون هوادة .
وبعد أن جربنا عبر سبعة عقود في الحكم الوطني تبين فيها ان لا سبيل لحل هذه المعضلة الا بالتحرير الاقتصادي الكامل، وضبط أداء الدولة بنهج حديث عبر اخضاع أجهزتها لرقمنة شاملة للدولة والخدمات والمعاملات . إلا أن خطاب رئيس الوزراء خلا تمامًا من أي إشارة إلى هاتين الركيزتين.
ولم يظهر في مخاطبات رئيس الوزراء ولا مجلس السيادة، بشكل صريح التوجه لتبني سياسة تحرير اقتصادي شامل أو مشروع رقمنة متكامل لضبط أداء الدولة رغم أنه سبق في تجربة لحكومة الإنقاذ الشروع في برنامج ما أسموه (الحكومة الألكترونية) التي شرعت فعلاً في رقمنة أجهزة الدولة والتحصيل الألكتروني . ألا أنها كانت تجربة تنقصها الرؤية الشاملة ويعوق تنفيذها ويشوهه الحرس القديم والعقلية البيروقراطية العقيمة المتفشية إنذاك ولا زالت .
خلا خطاب السيد رئيس الوزراء من أي رؤية اقتصادية واضحة، أو إشارة لتبني خطة لتحرير السوق، أو رقمنة الدولة، أو توحيد البيانات، أو المؤسسات. ولا حتى تلميح لتحرير العملة، وهو المفتاح الرئيسي للاستثمار وتحفيز الصادرات.
تحرير العملة وتوحيد سعر الصرف وإلغاء السوق الموازي ليست تفاصيل تقنية، بل هي أصل إصلاح الصادر والاستثمار والتجارة.
وهي الشرط الأول لجذب أي استثمار حقيقي داخلي أو خارجي، والخطوة الأولى لضبط التضخم واستقرار الاقتصاد الكلي.
وحين تغيب هذه النقطة من توجه رئيس الوزراء بالكامل، فلا يمكن الحديث عن “رفاه اقتصادي” إلا باعتباره أمنية عاطفية لا مشروعاً واقعياً قابلاً للتنفيذ فلا يمكن تحسين معاش الناس بشكل حقيقي ودائم او تحقيق الرخاء بقرارات جزئية لن تصمد أمام الواقع .
أما التكنوقراط، فوجودهم لا يكفي وحده، بل قد يتحول إلى عبء إن غاب المشروع الوطني المتكامل والبرنامج الإقتصادي الذي يسندهم.
نعم، اختيار التكنوقراط دون محاصصة حزبية فكرة مطلوبة ومشجعة، لكن ما فائدة التكنوقراط بلا رؤية وطنية شاملة؟
وما نفع الخبرة إن لم تستند إلى سياسة اقتصادية عميقة وجريئة؟
إن أعظم الفشل لا يأتي من الجهلة، بل من ما يعرف (بالنخبة) من علماء وخبراء ومثقفين حين يتصدّرون بلا مشروع.
لذلك فلن تقوم للسودان قائمة، ما لم تعلن الحكومة القادمة، وعلى رأسها الدكتور كامل إدريس، وبوضوح:
1.خطة واضحة وشاملة للتحرير الاقتصادي الكامل، تشمل تحرير التجارة والأسواق والاستثمار وتحرير العملة وتوحيد سعرالصرف.
2.برنامج رقمنة شامل للدولة والاقتصاد والإدارة والقضاء.
3.جدول زمني ومؤشرات قياس حقيقية لكل محور.
4.إصلاح شامل للجباية والضرائب والجمارك بمنظور تنموي عادل.
5.تعبئة وطنية واسعة لدعم هذه التحولات الكبرى.
ختامًا، لا أمل بلا خطة، ولا رفاه بلا تحرير للاقتصاد وضبط لأداء الدولة يسد الطريق أمام الفساد وضعف الأداء وسوء استخدام الصلاحيات .
السودان بلد عظيم، قادر على أن ينهض خلال سنوات معدودة لو وُضعت له سياسة واضحة، وتحررت إرادته، ورُفع عنه القيد الاقتصادي والبيروقراطي.
أما الاكتفاء بالحديث عن “الأمل” و”الصدق” و”التقشف” و”التسامح”، دون خطة عملية واضحة بمواعيد وآليات، فهو تكرار ناعم لفشل قديم.
نحن لا نحتاج إلى حكومة جميلة، بل إلى حكومة جريئة ولا إلى خطيب حسن العبارة، بل إلى رجل دولة يملك الجرأة على اتخاذ القرار الصعب.
وما لم نرَ ذلك خلال أيام لا أسابيع، فإن الدلائل لا تبشر بخير، وبكل صراحة – سيبدأ الأمل في الزوال والتلاشي لفقدان ما تبقى من ثقة في إصلاح شأن السودان .
كل هذا يلقى على عاتق حكومة الأمل الجديدة المرتقبة مسئولية الخروج من منهج اتخاذ القرارات مهما كان جمالها دون سياسات تطلق الإقتصاد من قيوده العقيمة وتحرره وتحرر معه الإرادة وتضبط إدارة الدولة.
محمد عثمان الشيخ النبوي