مقالات

سهير عبدالرحيم تكتب : ثلاثية الألم

*بسم الله الرحمن الرحيم*

*سهير عبد الرحيم*

kalfelasoar76@hotmail.com

*ثلاثية الألم *

*كُتب و نشر في العام 2012*

بينما كنت اتجول داخل دار (الطفل اليتيم ) بحي (المايقوما ) بالخرطوم عشت لحظة تسليم طفل حديث الولادة الى الدار، حيث جاءت تحمله بين ذراعيها جدته لأمه طفل برئ لم يتجاوز عمره بضع ساعات لونه شديد الاحمرار وبقايا دم ما بعد الولادة تبلل شعره الناعم بعد ان جف الكثير منها بين خصلات شعره ، (صرته) مربوطه على عجل كعجالة اهله الذين اسرعوا بجلبه الى الدار ترافقهم شرطة حماية الأسرة والطفل.

كان الصغير يبكي و(جدته ) تسلمه في لفافة الى موظفة قسم الاستلام وكأني بها تقول: هكذا اغسل عار ابنتي.

ظل الصغير يصرخ ويصرخ حتى فطر بكاؤه قلوبنا ، وقفت بجانبه وأنا انظر الى شفتيه الجافتين من كثرة الصراخ والعطش فهو رغم مرور ثلاثة ساعات على ولادته الا انه لم يذق حليباً حتى اللحظة.

كان يتطلع حوله وعيونه نصف مغلقة ويتساءل: من هؤلاء لماذا اخذوه من حضن والدته ؟ لماذا لا يبقى برفقتها ويحيا حياةً طبيعية يرضع من ثدييها ، ويتدفأ بصدرها ؟ لماذا جاءوا به الى هنا ؟ .

أجل ياصغيري انها الحقيقة المره فأنت تدفع ثمن خطأ ارتكبته أمك وأبيك في لحظة متعة حرام ، وكما بلغت بهم (النشوة) ذروتها حينها بلغت بهم (الندالة ) قمتها الآن فمزقوا هويتك ولفظوك الى الشارع لتواجه جحيم الحياة ووصمة مجتمع لا يرحم.

ظلموك حين غرسوك بذرةً في الخفاء بعيداً عن أشعة الشمس وضوء النهار وعيون الناس ، بعيداً عن ورقة لا يتجاوز طولها سنتيمترات تسمى (قسيمة زواج) بخلوا عليك ب(ورقة) واعتبروك (نضفة) من الألم و(علقة) من الخزي و(مضغة) من العار.

ظلموك مجدداً في حملك دونما رعايةً طبية ونفسية حيث لم تأتي والدتك في زيارات منتظمة الى طبيب النساء للتأكد من وضعية جلوسك ونومك داخل رحمها فلا أحد مكترث أصلاً لصحتك فأنت شخص غير مرغوب فيه وجميع أهلك يتمنون موتك.

لم تقم والدتك بإعداد حقيبة الولادة الخاصة بك وتضع فيها (الحفاضات) والملابس وزيوت الترطيب الآمنة على بشرتك الحساسة ، ولم تشارك (جدتك) بملابس قطنية تحيكها بنفسها تغزلها بخيوط الفرح وتنسجها ببشريات قدومك السعيد.

لم يذهب ( والديك )عدت مرات الى السوق لاختيار مهدك وترتيب فرشك وحجز مكان دافئ لك وسط الأسرة.

وفي يوم ولادتك لم تأتي أمك مخضبة يديها وقدميها (بالحناء ) وهي تتوسد ذراع والدك في طريقها الى غرفة الولادة …..تباهي بثوبها الجديد, كما تباهي ببطنها المنتفخ , وامومتها المنتظرة.

وعند ولادتك لم تحصل على حضن دافئ من أمك وقبلة فوق جبينك وحليب مابعد الولادة، ولم تعش احساس التواصل الروحي عقب الولادة بين الأم وطفلها، بل لم يأتي (والدك) متهللاً وباشاً ليحملك بين ذراعيه ويؤذن في أذنيك الله أكبر … الله أكبر …. اشهد أن لا اله الا الله واشهد أن محمد رسول الله.

كما لم يسارع والدك الى تلفونه ليهاتف الأهل و الأصدقاء ويبعث رسائل قدومك الميمون، لم توزع الحلوى في ردهات المستشفى كما لم توزع الابتسامات على الطاقم المشارك في ولادتك ، نعم لا حلوى ولا ابتسامات ولا (حافز) يدس في يد أحدهم ثمناً لحلاوة الخبر السعيد.

نعم يا صغيري هكذا ولدت ولم يفرح أحد لولادتك علي الاطلاق لم تنطلق الزغاريد، ولم تنحر الذبائح، ولم تنصب الخيم وتقام الولائم.

وتاكد يا صغيري أن حياتك ستكون سلسلة من الظلمات لأنك ستخرج لمجتمع قاس يمد لسانه لك ويصبغ عليك كل الصفات الذميمة والكلمات البغيضة وستلاذمك أسماء سيئة وستنعت بألفاظ قبيحة وستظل تدفع ثمن أخطاء الآخرين.

في تلك اللحظات كان بكاء الصغير يزداد أكثر فأكثر حتي احسسته قد قرأ أفكاري و كنت حينها أنظر إليه وأنا أقف بجانب منضدة وضع عليها بينما كانت مسؤولة الرعاية الطبية في الدار تعيد التأكد من ربط ( صرته ) بآمان .

في تلك الأثناء كانت مسؤولة قسم ( الاستلام ) تمسك بالقلم لتعبئ استمارة دخوله الدار أو دخوله الحياة فهو في كل الأحوال أحسن حظاً من أطفال آخرين حديثي الولادة وجدوا في مكب النفايات أو سقطوا من احدى جوالات القمامة بينما كان عمال النظافة يقذفون بها في عربة النفايات ، أو وجدوا على قارعة الطريق بينما تناولت الكلاب الضآلة جزء منهم كوجبة عشاء بينما اكتفي النمل بالمبيت داخل آذانهم .

أو كالذي قذفت به أمه في مرحاض بلدي مع قاذورات البشر وسكبت عليه في تلك البئر العميقة جوالاً من التراب حتى يموت اختناقاً تحت أنقاض التراب وتكون بذلك قد تخلصت من عار ظنته لباساً ونسيت قتل الروح التي حرم الله .

ولكن أراد الله أن يسوي التراب على أحد جوانب البئر ويظل الطفل حياً حتى يخرجه رجال الدفاع المدني بعد أن قضى أكثر من عشر ساعات في قاع بئر قضاء الحاجة (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) .

كانت موظفة قسم الاستلام تنتزع في معلومات الاستمارة انتزاعاً من أسرة الفتاة فالجدة امرأة خمسينية العمر سمراء البشرة بدا عليها الارهاق والتعب كانت شاحبة وشفاهها جافة تكشف عن أنها لم تذق طعاماً منذ فترة طويلة أما عيونها فقد اكتست بطبقة سميكة من السهر ، كانت قلقة ومتوترة ترتجف ألماً تائهة النظرات لا تقو على الوقوف ، بدا من مظهرها العام أنها من أسرة بسيطة تقطن احدى ولايات السودان .

أما ابنها شقيق الفتاة فقد كان شاباً في آواخر العقد الثاني من العمر يرتدي قميص كاروهات أحمر مخطط بالأسود فيما كان كم القميص القصير يكشف عن عضلات مفتولة ، ظل الشاب يرتكز بيديه المعروقتين على المنضدة وهو نصف واقف و كانت ثلاثة من ( أزرار ) قميصه العلوية مفتوحة ظهر من تحتها صدره وهو يعلو ويهبط في تسارع يشي بغضب عارم .

كان مقهوراً ومحمر العينين يتصبب عرقاً ، أحسسته شاباً قوياً وخشيت من قلبي على بطشه بشقيقته التي حملت خارج إطار الزوجية .

*نواصل*
*خارج السور :*

إعادة نشر الحلقات بسبب الاحداث هذه الايام في دار المايقوما …

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى