محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء وتدبر..منظومة التعليم رسوب في النتائج وحاجة ملحة لإصلاح جذري

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء وتدبر..منظومة التعليم رسوب في النتائج وحاجة ملحة لإصلاح جذري
ماذا تعني العملية التعليمية حين تنتهي بتخريج آلاف العاطلين، وتترك أجيالاً لا تُجيد التفكير ولا الإنتاج؟
الواقع أن التعليم في السودان يحتاج إلى مراجعة وإصلاح لكثير من مظاهر الخلل. ولا شك أن التعليم المتين المتقن المتسق مع أعلى معايير الجودة العالمية تحصيلاً أكاديمياً وتدريباً عملياً هو أحد أركان النهضة الكبرى للأمم والشعوب .
ولا شك أن تعدد المدارس والمعاهد والجامعات وتكاثرها أمر جيد محمود ما لم يكن على حساب الإجادة والإتقان، فما جدوى الكثرة بلا جودة؟ وما قيمة الشهادات بلا معرفة؟
السبب الجوهري العميق لتدهور المنظومة التعليمية هو أزمة في الفلسفة والرؤية
رغم كل ما يُقال عن “الإرادة السياسية” و”الموارد المحدودة”، فإنّ جذور أزمة التعليم في السودان تتجاوز الظواهر لتضرب في عمق غياب الفلسفة الوطنية المتكاملة للتعليم، بل غياب التصور الحقيقي لمكانة الإنسان في مشروع النهضة.
مظاهر التدهور :
● توسّع في إنشاء الجامعات والمدارس بلا ربط بالاحتياجات الحقيقية للبلاد.
● تكدّس الفصول الدراسية حتى صارت أقرب لعنابر مكتظة منها لبيئات تعليمية.
● انهيار شبه كامل في المناهج التعليمية، واختزالها في حشو نظري لا يحرّك عقلاً ولا يكوّن مهارة.
● انعدام أدوات التعليم الأساسية في أغلب من
مناطق البلاد مقاعد، سبورات، كتب، وسائل أيضاح مياه نظيفة، كهرباء ناهيك عن احتياجات الأنشطة الرياضية والثقافية والمعامل والمكتبات !
● تراجع مكانة المعلّم علمياً واجتماعياً واقتصادياً، مما أدّى إلى هجرة العقول نحو الخارج أو نحو الوظائف الأخرى أو الوظائف الهامشية.
● ضعف التعليم الفني والمهني وانعدام الربط بين التعليم وسوق العمل.
أبرز أسباب تدهور التعليم في بلادنا :
1.الحروب والنزاعات التي تسببت في تدمير المدارس، وحرمان آلاف الطلاب من حقهم في التعليم، وخلق أجيال مهجّرة فكرياً ومكانياً.
2.الفقر العام للأسر حيث أصبح التعليم عبئاً، وليس حقاً، في ظل غياب مجانية حقيقية أو دعم تحفيزي أو حراك عام يؤمن موارد لطالبي التعليم.
3.ضعف إدارة التعليم وغياب التخطيط بعيد المدى لقلة بل وانعدام المعينات مما جعل سياسات التعليم ردود أفعال فوضوية لا تصنع مستقبلاً.
4.غياب البيئة التشريعية العادلة التي تضمن الجودة، وتمنع التساهل في منح التراخيص لإنشاء المدارس والجامعات أو التهاون مع المؤسسات الفاسدة.
وهنا لا بد من التنويه بأن من أبرز أوجه القصور هو
إهمال التعليم غير النظامي والتعليم المجتمعي والتعليم الرقمي كبدائل حيوية في ظل الحروب والأزمات، حيث تتيح هذه النماذج فرصاً واسعة للوصول إلى آلاف الأطفال والشباب خارج المدارس، وتفتح آفاقاً جديدة لإعادة دمجهم في العملية التعليمية، بما فيها التعليم عبر الهاتف والتطبيقات الذكية والمنصات المجانية.
ثالثاً: التأثيرات الخطيرة
1.انهيار جودة الخريجين في كافة المستويات، من التعليم الأساسي حتى الجامعي، مما أوجد فجوة هائلة بين متطلبات السوق (علي ضعفها وضآلتها لضمور حركة الحياة) ومخرجات التعليم.
2.ضعف الوعي العام والتفكير النقدي: فأصبح التعليم أداة لنيل الشهادات لا لتطوير الواقع ولا للتخطيط للمستقبل.
3.ارتفاع البطالة مع كثرة الخريجين: لأن أغلبهم لا يملكون المهارات الفعلية المطلوبة. كما لا توجد فرص العمل لمن تأهل لجمود البلاد وعدم وجود المشاريع المشغلة بتوقف تدفق رؤوس الأموال وغياب الاستثمار.
4.تآكل الثقة المجتمعية في جدوى التعليم مما يجعل الأجيال القادمة أكثر عرضة للتسرب والإحباط، أو الاتجاه نحو مسارات خطرة (الإدمان، الجريمة، الهجرة غير الشرعية…).
وقد عبّر بعض الشباب عن هذا الإحباط في شهادات موجعة، كقول أحد طلاب الجامعات في ولاية نهر النيل: “لم أعد أعلم لماذا أتعلم… أشعر أنني أنتظر البطالة بشهادة جامعية!”، وهي صرخة تلخص ما يشعر به جيل كامل يرى في التعليم طريقاً مسدوداً بدلاً من أن يكون مفتاحاً للأمل.
رابعاً: العلاج الجذري – لا الوهمي ولا الترقيعي :
إن تحسين التعليم لا يعني فقط ترميم المدارس أو طباعة الكتب. بل هو مشروع نهضوي شامل يحتاج إلى قلب جديد ورؤية مختلفة تماماً، ترتكز على فتح بابين متلازمين: باب تحرير الإقتصاد وباب الأنظمة الرقمية المتطورة لضبط أجهزة الدولة كافة
فتحرير الاقتصاد سيُمكّن الدولة من تمويل التعليم بدون تسوّل أو توسل أو انتظار. ويمكنها من تحرير المؤسسات التعليمية من البيروقراطية لتمارس دورها العلمي والبحثي بحرية وكفاءة.
وكما أن ضبط أجهزة الدولة بالأنظمة الرقمية يحقق نظاماً صارماً للجودة التعليمية يشمل كل المدارس والجامعات دون محاباة.
وهنا يجب أن يتواكب ذلك مع مجموعة عوامل لازمة لتطوير المنظومة التعليمية وهي :
● نظام حوافز للعاملين في التعليم يرفع مكانة المعلّم ويجعل التعليم خياراً شريفاً لا ملجأً اضطرارياً.
● نظام شفاف للتقييم والمتابعة يربط تمويل المؤسسات التعليمية بأدائها الحقيقي لا غير.
● ضبط سياسات التوسع في الجامعات والمدارس الخاصة بمعايير الجودة وشيوع الأنظمة.
● استثمار وطني في التعليم الفني والمهني ليكون بوابة التشغيل الفعلي والنهضة الصناعية.
● إعادة الاعتبار للمعلم عبر الرواتب والتدريب والتقدير الاجتماعي.
● ربط التعليم بسوق العمل من خلال شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.
وتجدر الإشارة إلى أهمية الاستفادة من تجارب الدول الصاعدة، كرواندا التي جعلت من التعليم الرقمي والمهني أداة للتحول الوطني بعد الحرب، أو كسنغافورة التي بنت نهضتها الصناعية على تعليم صارم عالي الجودة مرتبط بسوق العمل. تلك النماذج تثبت أن التغيير ممكن، حين تتوفر الإرادة وتُرسم الرؤية.
سادسًا: التعليم… إما أن يكون مدخلاً للنهضة أو بوابة للهاوية ولن ننهض بمستقبلنا، ولن نحمي أبناءنا من الضياع، إلا إذا أعدنا للتعليم مكانته في مقدمة أولوياتنا لا ذيلها.
التعليم في السودان بحاجة إلى ثورة شاملة، لا إصلاحات جزئية، ثورة تبدأ من الاعتراف بأن المشكلة أعمق من مجرد فصول مهدّمة أو كتب ناقصة. إنها مشكلة في الرؤية… في العقل الذي يُخطط… في الإرادة التي تختار.
فلن تنهض أمة إلا بعقلها… ولا يُبنى العقل إلا بتعليم متقن، منضبط يخرجنا من تلك الحلقة المفرغة التي تُخرج لنا آلاف الشهادات دون تواصل وارتباط بحراك اقتصادي شامل متكامل يضمن توفير وديمومة مدخلات التعليم الراقي ويؤمن استيعاب وتثمين مخرجاته .
ونعيد التأكيد بأن التعليم – على جلال قدره وأهمية أثره – لا يمكن أن يحقق غاياته العليا، ولا أن يؤدي رسالته الكبرى، إلا إذا وُضع في سياق حركة نهضوية شاملة، تتفتح فيها أبواب الحراك العام، وتنتظم مسارات الاقتصاد والاستثمار والتشغيل. فنجاح التعليم لا يُقاس بعدد الشهادات، بل بمدى تأثيره في
حياة الناس، وانعكاسه على معاشهم وكرامتهم ومشاركتهم في صناعة حاضر وطنهم ومستقبله.
ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا في ظل التحرير المطلق للإقتصاد، وأنظمة شاملة منضبطة، وهما يشكلان معًا القاطرة الحقيقية لتفجير طاقات المجتمع وتدوير عجلة الإنتاج. فبفتح هذين البابين، تنفتح آفاق الاستثمار وتتدفق رؤوس الأموال، وتتحرر الطاقات
المعطلة، وتُخلق فرص العمل، ويُحال الناس ما بين مكتفٍ وغني، وعاجز مكفول، في ظل موارد دولة ثرية لا بفعل المِنح أو القروض، بل بما تجنيه من حركة عمرانية وتجارية واسعة، تجلب رسوماً وجمارك وضرائب، وإن قلّ استقطاعها، فإنها لعِظَم الحراك تكون وفيرة.
وفي ظل ضبطٍ شاملٍ للأنظمة يحدّ من الفساد ويوقف الهدر، يصبح بمقدور الدولة والشعب معاً أن يرتقوا بمنظومة التعليم إلى أعلى مدارج الجودة والإتقان، وأن يحصدوا أعظم آثاره، تعليماً يُنتج أجيالاً راشدة، مفكّرة، منتجة، تضع السودان في مكانه الذي يستحق بين أمم الأرض.
محمد عثمان الشيخ النبوي