وثائقية

حسن فضل المولى يكتب :كوباني .. سلامٌ عليك ..

حسن فضل المولى يكتب ..

كوباني .. سلامٌ عليك ..

كل عام وأنتم بخير
وعيد مبارك علينا وعليكم
واللهم أرحم موتانا
واحفظ أحياءنا
ودعوة خالصة مني ..
أن احذروا القتل
وكُفُوا عن التحريض على القتل
وكفوا عن اللامبالاة بالقتل
فمن قتل نفساً واحدة ، فكأنما قتل الناس جميعاً
ومن أحيا نفساً واحدة ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ..
ومن حرَّض على القتل ، فهو والقاتل سواء ..
ومن فرِح بالقتل ، فهو والقاتل سواء..
وكلهم في الجحيم سواء ..
طهروا صفوفكم من الأشرار والقَتَلة ..
تُفلِحُون
وتُطْعَمون
وتَأمنون
وربكم ترضون ..

و كُلُ عيدٍ
كان يأتي بطعم ( كوباني ) ..
و أُنْسِهِ
إلا أن هذا العيد قد جاء ، و الحزن يلُفُنا على فِراقه ..
وأنا ..
قلت أتمهل قليلاً في وداعه ..
ذلك أن الرجل يملؤك بمشاعر وأحاسيس ، تتنفسها وتحيا بها ، حتى بعد أن يغادر هو الحياة ..
كيف لا ..
و هو من كان مُفْعماً بالحياة ..
و ظل يهب لنا الحياة ..
كلاماً
و هُياماً
و ابتساماً
و أفعالاًعِظاماً ..
و أنى استقر به المقام ، لا تجده إلا وهو مُلْهِمٌ للسعادة و المسرات و الحبور ..

في أي وقت
و انت ماري بالبيت …
إذا رأيت باب الدار مُشرعاً ، و الناس يجيئون ويروحون ، فاعلم أن ( كوباني ) في البلد ، فما عليك إلا أن تَلِجَ بلا استئذان ، لتجد في انتظارك يدين كجناحي النسر الأسمر عندما يهم بالتحليق ، تسارعان لاحتضانك ، بحرارة و حميمية وشوق السنين ..
و هذا طبعُهُ ، الذي فُطر عليه ، إذ أنه من أولئك النفر ، الذين يُقْبِلون عليك وكأنك أنت الأقرب إليهم دون العالمين ، فما أن تخالط الذين يحيطون به ، حتى تجد أن الجميع إلى ( كوباني ) أقرب وأحب ..

كنت أحرص على زيارته ، كلما حضر إلى السودان ..
و في آخر جيئة له ، وكالعادة ، وجدته في زحمةٍ من الأصفياء .. هناك ( كمال ترباس ) ، والذي كان يمتشق ( رشاشاً ) ، أثار إستغرابنا ، وهو من يملك لساناً أمضى من أي سلاح ، وفي ركن قصيٍ تَوَهَطَ ( جَلْطَة ) يلسع ويسخر ، و يجلس ( حسن كوباني ) ، بتواضعه الجم ، والذي ما أن يتحدث حتى يتدفق علماً ومعرفة ، ويجيئ الدكتور ( معتصم جعفر ) ، يتبعه شقيقه ( مالك ) ، قمران نيَّران أنَّى حلا و أنَّى ارتحلا ، ( أولاد جعفر ) ، كما يطلق عليهم الصديق ( جمال الوالي ) ، وهناك أحمد الخاتم ، الذي يبدو مشفقاً على الدكتور ، ويجلس( مهند عبدالنعم ) هادئاً كعادته ، وعددٌ من وُجهاء ( الأهلي الخرطوم ) ، وا فتقدت ، يومها ، المحامي الضليع ( كرم الله ) ، الجار ذي القربى والصديق ، لعله على سفر ..
و (صديق كوباني ) لا يهدأ يستقبل ( الفاتح مهدي ) و آخرون ، ويودع ( برجاس ) وآخرون ، ويمازح الشاب الأنيق الفنان ( محمد عيسى ) ، ويسقي و يُطعم ، وعندما ( يَخْرَمُ ) يخرج إلى الشارع ليشعل سيجارته ( البينسون ) ، والتي كلما قابلني تكرم علي بواحدة ، فأجد لها طعماً مختلفاً ، ثم يعود مسرعاً ليواصل الإكرام والاعتناء بمن هم حضور ..
مشهد ( كالمحفل ) الذي لا يَنْفَضّ ، فكلما ذهب نفرٌ أقبلت ثُلةٌ ، و(الدكتور) رغم اعتلاله ، ينهض واقفاً مُستقبِلاً ومودعاً ، بابتسامة تسع الكل ( حباً وكرامة ) ..
يحمل ( قلَماً ) و ( مِكتابةً ) و كلما أراد أن يقول شيئاً ، أو يُجيب على سؤال أحد الحاضرين ، يأتي مُسرعاً ، ويَكتُب الذي يريد قوله ، ولولا ( احتباس الصوت ) لحسبته هو الشديد المُعافى ، و الآخرون قعود ..
مجلسٌ ، تُمْطره سحائبُ الفنون ، والرياضة ، و الأُنس ، والجمال ، ولواعج النفوس وأشجانها ، ونظيم الكلام ، فقط كانت تنقصه الوجوه الحِسان ، و التي لولاها لما نظم الشعراء وتغنى المغنون ، وإن كان الحُسن حاضِراً يملأ الآفاق ..

( كوباني ) يجسد طيبة ( ود البلد ) ، الذي لا تُلهِيه الحُظوظ ، و لا تُطغيه المناصب و الرتب ، و هو كلما ارتفع عِلماً ومعرفةً ، يتدلى لمن حوله أدباً و تواضعاً ، لذلك لا تجده يتخير الأصحاب و لا يمِيِز بين من هم حوله ، فكل من طرق قلبه مُرَحَبٌ به ، و الذين هم حوله ، قد لا تجد بينهم من يملأون الأرض صخباً و ضجيجاً ، بل تجد أُناساً لا يجمع بينهم إلا حبهم و تقديرهم له ، و حبه و تقديره لهم ..
أنت مهما كنت بسيطاً وصغيراً ، تجد نفسك في نظر كوباني ذا شأنٍ عظيم ..
إذ يُلبِسُك قلائد من الثناء و التقريظ ، فوق ما تستحق حتى تقول : ياترى !! هل أنا المَعْنِي أم أنه شخص آخر ..
و لكنه تواضع الكبار ، لمن هم دونهم من الصغار ..
عندما قرأ مقالي عن ( كمال ترباس ) ، كتب لي ماسيبقى محفوراً في ذاكرتي وفؤادي و وجداني ، حيث قال :
( يا سلاااام يا حبيبنا الجنرال 👏👏
والله ابدعت وانصفت صحبك ترباس كما لم ينصفه احد من قبل..وانت الرسمت بالكلمات وطوعت الحروف فكان كلامك نفسه قطعة ادبية في حق فنان جميل واصيل ..بل والله من اروع المطربين في العقود الاخيرة لسوداننا الحبيب..يجود بالغناء بصوته الاسر وتطريبه الجميل وكما قلت يطوع الكلمة داخل اللحن ويمنحها ألق عجيب..
شكرا ليك يا ابوعلي وانت بتطرانا دوما وربي يديك العافية والسعادة يا انبلنا❤️
شلت الاذن براي..وقمت بتوزيعها يا حبيب 😀..لفخري بما كتبت وتكتب دوما ..❤️😍 ) ..
يا لها من كلمات ٍ، تمنحك الرِضى ، وتجعلك تطال الشمسَ والقمرَ والنجومَ الزواهِر ..

و ما أن يُذْكَرُ ( علم الطب الشرعي ) ، وأسرار التشريح ، إلا ويتبادر إلى الأذهان( كوباني ) ، هذا العالِم الجليل ، الذي برع في معرفة أسباب الموت ، بأن ظل يُكرم الإنسان ، بالوقوف إلى جانبه وهو ( ميت ) ، ومعرفة أسباب الموت ، إن كان طبيعياً أو بفعل فاعل ، و كيف ، و متى ، وبأي وسيلة ، وعلى أي جنبٍ ، حتى أصبح للموت بين يدي صَنِيعِهِ هذا معنىً يقف عنده الناس ويتأملون ..
وليت الناس يتأملون ..
( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) ، صدق الله العظيم ..
وفي إجابته على سؤال الصحفية النابهة ( رندة بخاري ) ، قال :
( بالنسبة للجسد من الناحية التشريحية في الطب الشرعي ، فهو أكثر شيئ صادق … وعندما يكون ميتاً ، لا يكذب أبداً ) ..

إن ( كوباني ) وهو يُباشر الموتى ، ويحيا بين الأموات ..
يُلمْلِمُ أشلاء هذا ، وينتزع من الآخر سر موته ، ويأتونه بمن يكتشف أن الروح لا تزال كامنة فيه فيكفكف أهله الدموع إلى حين ..
و يكتب عن الموت كيف يقع !! و ماذا يحدث لجسد الإنسان بعد أن تفارقه الروح ، و كيف يتحلل إلى أن يصير عظاماً نَخِرة ..
وهو إذ يفعل كل ذلك ..
فإنك لتعجب لهذه القوة والشكيمة ، عندما تجده يُقبل على الحياة وكأنه لم يرى الموت يوما ، ولم يسمع به ،ولم يُعاشر الأموات ..
إذ يتخذ من الجمال مِهاداً وغواشِيِّا ..
و يصف من يستعذب جماله بأحلى عبارة و أرق المشاعر و أنبلها ..
( أنا شفت الملاك بإيدي سالمتو
بهرني بي نورو خلاني مأسورو
ومن ضِعت في بحورو أنا عقلي فارقتو
لو طلاك صباحو أو ضماك جناحو
أكيد القلب بشفى وتطيب جراحو
كمان لو شفت لونو وسحرو الفي عيونو
تدور ترحل في كونو من حسنو ولطافتو
الراقي في وسامتو مرسومة ابتسامتو
تفوق البدر صورتو وآية الحسن هامتو
دلال من غير تعالي ورقة وذوق مثالي
زي الدر بلالي في أصلو ووداعتو
من يوم مالقيتو كل الفات نسيتو
في قلبي اصطفيتو ودون الناس هويتو
صار لحياتي معنى وفي أحلامي جنة
بس الحظ تجنى شال قلبي وسعادتو ) ..
و ( أيه أسباب غرورك
والقسوة الفي عيونك
لأني حبيتك
و في شعري غنيتك
وحكيت كتير عنك
و بستاهل غرورك ) ..
أغنية تجسد عبقرية ( أحمد المك ) اللحنية ، و أداء ( نادر خضر ) الذي جعل كلماتها تُلامِسُ شِغاف القلوب ..
و ( كلك حلو
و انت الجمال
في كل معنى تكملو
بعشق رواك وانوار صفاك
لكن جفاك والله ما بتحملو ) ..
و ما أحلاها و أطعمها عند ( فرفور ) ..
و ( ياستهم
حسنِك يفوق حد الخيال
كيفن محاسنِك أعدهم ) ..
ويا لروعة ترباس ، وهو يتغنى بها بطريقة تفوق حد الخيال ..
و ( منتهى الريدة
تعال يامُنتهى الريدة
تعال لعيوني ياسيدا ) ..
و ( يا قلبي
قلت ليك سيب الغرام
ياقلبي ما رضيت الكلام
خلاك وغاب ما حنَّا ليك
وبقيت مع الشقا والملام ) ..
أغنية عندما تشدو بها ( ندى القلعة ) ، يكاد قلبك يقفز من صدرك ..
وعشرات القصائد الموحِية
أشعار تخفق لها الأفئدة ..
وبالرغم من ذلك يقول لك أنه ليس بشاعرٍ وإنما هو كاتب أغاني ، وهو عندي شاعر فحلٌ مُجِيد يُسْقِطُ على الكلمة من روحه ، فتستحيل كائناً حياً يُضيُ ويبتهج ويهب العُمر ..

لا يلقاك إلا وهو ضاحك مستبشر ..
وتسكنه روح الدعابة
وسرعة البديهة
و لقد ذكرت طرفاً من ذلك في تداعياتي
طرائق ورقائق ) ..
( وفي رمضان ، في تلفزيون السودان ، كنا ننتج فترة مفتوحة على الهواء بعد الإفطار مباشرة ، وكنا نختار لها ضيفين يجمع بينهما جامع ، وكانا يُفطران معي بمكتبي الكائن بمبنى البرامج ، وذات مرة وقع إختياري على صديقي  ( د. عوض دكام ) و صديقي ( د. علي الكوباني ) .. ولم أفصح لأي واحد عن الضيف الذي سيقاسمه الحلقة ، وكان أن جاء ( د. كوباني ) في الموعد ، وعندما فرغنا من الإفطار ، وقبل أن نتجه إلى الإستديو بخمس دقائق ، دخل علينا ( د. عوض دكام ) مُسرعا ، أنفاسه تعلو وتهبط ، وعندما فوجيء بالكوباني صاح بأعلى صوته : لا حوله ولا قوة إلا بالله العظيم !! أنا لو عارف معاي ( كابيلا ) ده في الحلقة ما كان جيت ، وأنا الشارع الوحيد الأصلاً  ما بمشي بيهو هو شارع المشرحة ، وبعدين هو الزول لما يموت لزوم الدكتور شنو ؟؟
فأطلق ( الكوباني ) قهقهة مدوية كعادته وقال : ياخ ماتروح كده .. هو طب الأسنان زاتو ما محتاج لكلية ، مفروض يُدرس لطلاب الطب بالمساء .. حصة (قلِع) وحصة (حَشو) ..
وعندما طلبت منهما التحرك الى الإستديو إحتج ( عوض دكام ) : شنو طوااالي كده نمشي .. ((لا هزة كانون ولا كباية ليمون )) ؟
ومن تلك اللحظة ، بدأت الحلقة ، قبل أن ننتقل الى الإستديو ، طاعمة وضاحكة ومليئة بالإثارة والحيوية ، لتعكس لقاء العظماء ، الذين يداوون الأجساد والأرواح والأفئدة ، بما يصدر عنهم من قول أو فعل ) ..
رحمهما الله ..

( كوباني ) عُشَرِي
ساهل
ذلول
حبوب
تجيبو كلمة ( حلوة ) ، و تودي كلمة ( شينة ) ..
واااااضح
يقف إلى جانبك عندما يقتنع أنك على حق ، و ينبذ إليك على سواء ، إذا تنكبت الطريق ..
لذا فقد اجتمع الناس على محبته ،
و من يجتمع الناس على محبته ، فهو عند الله ، إن شاءالله ، من المقبولين ..
و هذا ما بدا جلياً في ( مأتمه ) ، وهو ( المأتم ) ، الذي تداعى له الناس خِفافاً وثِقالاً ..
الرياضيون ، والأطباء ، والساسة ، والعلماء ، والمهندسون ، والمطروبون ، والشعراء ، والمحامون ، والقضاة ، والموسيقيون ، والوراقون ، ورجال الأعمال ، والإعلاميون ، والنِظاميون ، والنظَّامون ، وأصحاب المهن ، و من لا مهنة له ..
العامة والخواص ..
أهل اليمين و اليسار ..
من كل الأعمار ، والإنتماءات ، والسحنات ..
الذين عرفوه ، ومن لم يسعدوا بلقائه ..
الكل يعزي و يتعزى ..
فأيُّ بشر جمع كل هؤلاء
و أي بشرٍ افتقده كل هؤلاء
و أي فقد روع كل هؤلاء
وأي عزاءٍ يُصَبِّرُ كل هؤلاء !!
و لو كان ( الميت ) يُفتدى ، لسارعت تلك الجموع إلى افتدائه ..

طبت حياً وميتاً
ورحمة الله تغشاك يا ( كوباني ) ..

والسلام ..
أم درمان ١٤ مايو ٢٠٢١

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى