الثقافية

تدابير المصادفة

أحمد المبارك

الرُّوحُ شأنُها آخرٌ، لكنَّ رَغبَة جسدي وعَوَزُه إلى الكَنَفِ فاقَت احتماله. رأسي يَمُورُ بأفكارٍ مُشَوَّشَة. مُستَلقٍ على سريرٍ، وجهي إلى السَّقف. هناك، على السَّقفِ المُتأهِّبِ للانهيارِ رُبَّما اللحظة، أحصيتُ ثلاثاً وثلاثينَ عارِضَةً أستطيع، غيابيَّاً، توصيفها. لا مكان يَحتَمِلُ وجودي، لا مكان أحتمِلُ أنا وجودي فيه؛ بَل لستُ متحققاً إن كان ما يُسَمَّى أنايَ موجودٌ أصلاً. لذلك سأقوم بمحاولةٍ أخيرةٍ لرَدِّ الاعتبار إلى ما يُسَمَّى: جسدي، وتغليفه ببعض وَرَقِ الإحاطة. سأرتادُ مكاناً لم أحدِّده بعد. أتأنَّقُ بما يفوق العادة؛ كأن أحلق شعري، أرُشُّ القليل من عطر الـ( وَن مان شو) على قميصي وراحَةَ يَدَيَّ، كما لا أنسى عُنُقي؛ تحسُّباً للعناقٍ. سيكونُ لائقاً بالأصيلِ ارتداء حذاءٍ رياضيٍّ لتكثيفِ شعور الخِفَّة عند قَدَمَيَّ، على الأقل. يَجِبُ أن أجلسَ في مَقْدَمِ المركبةِ بحيث اختزِلُ مُجمَل الوجود في الطريقِ غير المعبَّدة؛ تَفادياً لأيَّةَ صُحبَةٍ طارئةٍ. لا خِبرَةَ لديَّ بالمُواعداتِ الغراميَّةِ؛ لكنَّ من يراني سيظُنّ بي ذلك. وبينما ينتهرُ السّائقُ العَرَبَةَ، وتعبُر الطريقُ إلى الخَلفِ كأنَّما تَختَلِجُ عينيَّ؛ يهمُسُ داخلي صوت:
” بسبعِ وسائدَ محشوَّةٍ بالسحابِ الخفيفِ انتظرها..
ومُسَّ على يدها عندما تَضعُ الكأسَ فوقَ الرِّخام..
كأنَّكَ تحمل عنها النَّدى”.
أمامي تَغيمُ الطريق ثُمَّ تختفي. ثَمَّ سُحبٌ تُغطي هامَة الجَّبَل؛ كأنَّما أهالَ الله عليها حليباً فتجمَّدَ. انعَدَمَ شعوري بما حولي فتماهى الوجود فيَّ. صِرتُ شاسِعاً وضئيلاً بما يكفي لأن أكون أنا الوجودَ ذاته. وإذِ السُّحبُ رابِضَةٌ أعلى الجَّبَلِ، رأيتُني أعبِّيءُ لها الوسائد، وأنثُرُ البَخورَ على مِبخَرٍ فِخاريٍّ بيننا عند منحَدَرٍ أسفل النَّهر!
كانَ النَّهرُ في أوْجِ جُنونه. كُنتُ أقف أعلى الكوبري أتأمَّلُ الموجَ، أشهَدُ تَحَطُّمه وانكساره. كَم أشبه موجَةً هذه اللحظة. أشعُرُ كأنَّ بعضي يحوم حولي، جسَدٌ لم ألتقِه قَبلاً ولكنَّه يسعى لأن يلتئم معي. تَمَلمَلتُ في وقفتي. رفعتُ ذراعيَّ عالياً أتمطَّى. وبمجَرَّدِ أن اخترقتني بسهم لحظِها؛ تحقق وجودي، صِرتُ مرئياً بما يتيحُ لي الشعور بجسدي يخترق الزِّحام. و بدا لي أنَّ الأجسادَ في حياتها إنما تسعى، في كل خطوةٍ وعثرَةٍ؛ للالتئام، بلا وَعيٍ، إلى بعضها الغائبِ؛ ذلكَ أن الحضورَ هو اكتمالٌ بغياب الفَردِ في الفَردِ. وهُنا تمثِّل الرُّوح الزئبَق الذي يفصل ذرات الذهب عن بقيَّة العناصِر؛ وتُسمَّى شوائب، ليلتئم شتات الذَّهَبِ في جسدٍ واحِدٍ.
هيَ وحيدةٌ مثلي، أو واحدة كما هو حالي. وفيما كُنتُ أنزِلُ بخِفَّةٍ و بلا عَجَلٍ أسفل النهر؛ شَعرتُ بجسدها يهتَزُّ، وكلما دنوتُ خطوةً نَدَت عنها التفاتة. وقَفتُ استجمع أنفاسيَ مُخفياً ما استطعتُ من انتفاخِ رئتيَّ بالهواء. تَوقَّفَت يدُها عن حَصبِ النَّهرَ بالحصى كأنَّما شُلَّت، وعَجِزَت قدمايَ أنا عن الخَطوِ. لكنّي انحنيت وخَمَشتُ كومَةَ حصىً ورحتُ أحصُبُ النهر بينما يخِفُّ وزني. و حينها كانَ قد التَفَتَ جيدها الفخاريِّ ناحيتي فصِرتُ أنا المَجَال المُقابِل المُقابَل. من خلفها اختفى النهر وبقيَ جسدها – الذي لا يشبِه أيُّ جسدٍ أنثَويٍّ رأيته – يَشِفُّ كَمَنْ أُشعِلَت في جوفه المصابيح. بدأت تنمو حول جسدي سِيَاقُ إحاطَةٍ جَعَلَت أمر اكتنافِه حادثاً وشيكاً. إذ إنَّ التقاءنا كان كائناً، أساساً، في العَدَمِ المُوْحِشِ في تُربَةِ الأزَلِ، وخُيوطه مُسَوَّيَةً بيننا في تمام النَّسجِ. بهذه الخُطوَة التي أشرَعُ بها، الآن، تقليص ما يُشتَبَه بيننا من فضاء؛ يُمسي من المستحيل أن نبدو كمجرَّد مُشتَبِكَيْن!
قلتُ: رأيتُكِ ترمين الجمرات، أشيطانٌ ثَمَّ؟
تبدينَ كمن ينتظر لا أحد. أنا أيضاً أنتظر لا أحد. أعني أنني لم أنتَوْ المجيء إلى هُنا. أردتُ ارتياد مكانٍ مُطلَق. لاريبَ في أنَّ قُوَّةَ جذبٍ خارقةٍ يبثها النهر في مجاله فتعلَقُ الكائنات بما يشبه شِراكاً سحرية. ثُمَّ مَدَدتُ ( هَل أُسمِّيها يدي؟ ) لاحتواء كائنٍ رِخوٍ مُثقَلٍ بخمسَة أصابِع؛ يُدعى: يَدُها.
كان عناقُ أصابعنا خفيفاً وصاخباً في صمت. شَعَرَ – كِلانا – برَعشَةٍ تَدُبُّ في جسدِ الآخَرِ الذي سيؤلُ إليه؛ إذ تأهَّبَنا، كمَمْسوسَيْنِ، لتأسيسِ ” حَالَةٍ ” لا تبدو للرَّائي – جرَّاء المُخالَجَةِ – سوى أنها محض عناق. غيرَ أنَّهُ – وأعني رآئينا المَبهوتِ – لن يَشهَدَ لحظَةَ افتكاكِ أحَدُنا من مُشَابَكَةِ الآخَرِ؛ إنَّما لَن يُدرك الكُنه الخارِقِ و الخَفيِّ لِما يَظُنُّ أنه يَراه!
مَدَّت ذراعيها إليَّ. أجفَلتُ من هَوْلِ المُصادَفَة؛ إذ إني هَمَمتُ في سريرتي بمَدِّ ذراعَيَّ لاحتوائها. حقيقَةً لا يوجدُ مُقابِل أرضي لخيطِ ضوءٍ بَارِقٍ انبعثَ من عينيها. حَضَرَني – وأنا مَن لَم يَر القُطنَ في الحقول – بيتٌ شِعريّ يتغزَّلُ بزهرةِ القُطنِ فأنشَدتُهُ، هامِساً، عليها:
” قَد أنَرتِ الرُّبوعَ يا زَهرَةَ القُطْنِ فَهَلَّا ،، أنَرتِ قَلبي هَلَّا ”
كانَت الأمواجُ تَتَهادى، وهي تَسحَبُ بأذرُعِها بساطَ الرَّملِ من تَحت قَدَمينا. ابتَلَّ أسفَل فُستانها المُوَرَّدِ الضَّائِقِ عِند خَصرها الأنيقِ مثلما ابتلَّت روحي. كأنَّ فراشةً تحُطُّ على قلبي المُتوقِّفِ النَّبضِ احتوت كَياني. و لَمَّا استقَرَّ يقيني ببَكمها قالت:
” أنتَ شيطاني الذي كُنتُ أحصُب ”
انسابَ تيَّارُ موسيقىً تُلائم، فقَط، للهَدهَدة، عَبَرَ مَسامي مُفكِّكَاً ايَّايَ إلى جُزيئات؛ أثناء ما افتَرَضَت أنها تتحدَّثُ بصوتها:
” حَلُمتُ بصَدَفَةٍ كبيرةٍ على ساحِلٍ لَم اتبيَّنُ لأيِّ بحرٍ كان. ثُمَّ استيقَظَتُ، كما لم يحدث أبداً، تَحُفُّني سعادَةٌ أجِدُ الآن ما يبرِّرها. لَم أُنتَبْ، قَبْلَاً، برغبَةٍ مماثِلةٍ لمشاهَدَةِ نهر القاش واستنشاق أنسُمِهِ الدَّافئةِ كبخارِ مِغلاة؛ لدرجَةٍ خارَ معها عَزمي في المُمانَعَةِ. أنتَ تُصَدِّقُ وتُؤمنُ بالله: دائماً أتخيَّلُ أن ألتقي حبيبي، المجهولِ قبل اللحظة؛ ها هُنا.. أعني تماماً حيثُ نقف. هَل نحنُ الآنَ مُتَعانقان! لَم أتصَوَّر، أبداً، أن تكونَ لجسدي كل هذه الخِفَّة… أن يكون لقلبي كلَّ هذا النبض. نَشَرتُ نصفَ الغسيلِ وتركتُ نصفاً على الطَّست. استحممتُ على عَجَلٍ و دونَ وَعيٍ مني وجَدتُ جَسَدي يُحيطُ بك ”.

  • أفلِتيني قليلاً.
  • أليسَ عِندَما تُفلتَني أنتَ، هَل أحلُم؟
  • إن كنتِ تحلُمين؛ يسعدني أن أكونَ (وَدَّ ابليْسَكِ) المُفَضَّل.
  • ألَكَـ اسم، من تكون؟
  • كانَ لي اسمٌ قبل لحظة. نَسَيْتُه، انمَّحى. سأتسمَّى بِكْ، كيفَما تكونين. فإن كُنتِ تُدعَيْنَ: بـ ” أنْتِ ” ؛ فأنا أنتِ. أنا ” مُضارِعٌ ” يَتَوَغَّلُ باستمرار. آخُذُ هيئتي من الفِعلِ الحادِثِ؛ كارتدادِ فعلٍ لأمزِجَتَك الجَّامِحة. عُنواني كائنٌ يَتَجَدَّدُ حيثُ تُقيمينَ أُقيمُ: ( الحِجِل،، في الرِّجِل )!

( سَحَبتُ أصابعها في يديَّ إذ تنسَلُّ مِنِّي، بينما يهتَزُّ على صدري بعضُها الرَّخوِ كأنِّي هيَ! )

العهد اونلاين

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى