مقالات

من الفكر العالمي ..الأرباب الثلاث

من الفكر العالمي ..الأرباب الثلاث

 

ميزة هذا العصر الأساسية هي روحه الأناركية ومعاداته للسلطة، بحيث يرفض كل مظاهر السلطة وتجلياتها مهما كانت بسيطة. بالنسبة له، السلطة كلمة نابية ولا تعني سوى الاستبداد لأنها تضع حدودًا لحرية الفرد ورغباته وتنفي مبدأ المساواة (حاكم/محكوم). ومن هنا تقديسه للضحية فهي بشكل ما تمثل النقيض المطلق للسلطة.

هناك ثلاث سلطات تمثل الأساس الذي يقوم عليها المجتمع التقليدي والحضارة بشكل عام، وهي العدو الرئيسي الذي يجب التخلص منه في نظر العصر الحديث، يمثل هذه السلطات الأرباب الثلاث: الله، الحاكم، الأب [رب الكون، ورب الأمة، ورب الأسرة]. ومقابل هؤلاء الأرباب الثلاث لدينا ثلاث أيديولوجيات رئيسية في هذا الزمن وربما هي الأكثر أهمية فيه: العلمانية، الديمقراطية الليبرالية، النسوية.

أما الله فلا يمكن للعصر الحديث إلا أن يراه على أنه يمثل الاستبداد المطلق، فهو صاحب السلطة المطلقة التي تعلو كل ما في الوجود، وبالتالي من الأفضل إزاحته خارج حياة الفرد ليكون بمقدور الأخير التحرر من كل قيد بكل راحة ضمير، لهذا لا يوجد معتقد يتلائم مع العصر الحديث ويعبر عن روحه مثل الإلحاد، وليس أي إلحاد، بل ذلك الإلحاد الجديد الذي يمثل اليوم الغالبية الساحقة والذي يخفي وراءه أيديولوجيات ليبرالية ومساواتية بخلاف الإلحاد القديم الذي وجد بين النخب. كما لدينا العلمانية التي تسعى لإزاحة الله عن الحياة العامة للمجتمع وهي نوعان: علمانية ملحدة على الطريقة الفرنسية لا تريد إلهًا ولا حتى أن تسمع عنه، وعلمانية ربوبية على الطريقة البريطانية، لها إله لكنه لا يتدخل في شؤون العالم، تمامًا كما لها ملك لكنه لا يتدخل في شؤون الأمة [لا يوجد ملكية بدون إله/آلهة].

بالنسبة للحاكم أو الملك أو الأمير أو السلطان أو حتى الرئيس وإن كان منتخبًا، فهو الطاغية والمستبد الذي يجب الحذر منه، لأنه هو من يضع الحدود للأمة، والأهم من ذلك يضع حدودًا للفرد، وبالتالي يجب الاستغناء عنه عمليًا وتعويضه بالديمقراطية، لكن ليس أي ديمقراطية، فحتى سلطة الشعب تثير الريبة في نظر العصر الحديث مثل أي سلطة أخرى، بل الديمقراطية الليبرالية التي تضع على الشعب والسياسي معًا قيودًا تقيض سيادتهما وتنتزع سلطة القرار من يدهما باسم مفاهيم مجردة مثل الحرية وحقوق الإنسان والمساواة، لصالح ما يسمونه دولة القانون التي هي في الحقيقة ليست سوى دولة نصوص دينية لها إلهٌ هو الفرد.

أخرهم الأب، ذلك الذي لا تقع عليه فقط مسؤولية رسم الحدود للطفل، لكن أيضًا لأمه. هذا ما يعرف بالأسرة الأبوية أو البطرياركية. هو العدو ورمز الشر الذي يجب التخلص منه في نظر الحركة النسوية، يجب أن لا يكون للمركب قبطان يعود إليه القرار النهائي ويضع القانون ويفرض النظام الذي تسير عليه الأسرة فهذا بالنسبة لهم هو استبداد وطغيان، وكبديل على ذلك يطرحون على الناس بدائل شاعرية ومثالية عن دمقرطة الأسرة والحوار والتفاهم وقصص المراهقات، لكن الناس تصطدم في النهاية بالواقع المختلف عن تلك الرومنسيات، فليس كل خلاف يحل دائماً بالحوار، والأم لا يمكنها أن تكون أبًا مع أطفالها ولا العكس بالنسبة للأب، أما المساواة بين الزوجين فتنتهي غالبًا إما بخلق ندية ومنافسة بينهما وحربًا لا نهاية لها إلا بالطلاق [هذا ما يفسر انفجار نسب الطلاق] أو يتحول الأب إلى ما يدعونه بالأب المتحضر والمتفهم الذي هو في الحقيقة ليس سوى أمًا معطوبة في البيت، أو يتحول الأب إلى مجرد سلف غائب لأنه يرفض أن يكون تلك الأم الثانية التي تأخذ أوامرها من الأم الحقيقية التي بدورها تأخذ أوامرها من الطفل الملك الذي لا تعرف كيف تضع له حدًا، لنصل في النهاية إلى أنه بدون أسرة أبوية حقيقية لن يكون هناك أسرة من الأساس.

لكن كما يقول كارل شميت: لا توجد سياسة ليبرالية بل هناك فقط انتقادات ليبرالية للسياسة… عندما يواجه الليبرالي الواقع يكتشف بالتدريج بأن البشر ليسوا بالضرورة أفرادًا عاقلين وسيختارون دائمًا ما هو صائب، وأنه لابد لهم من سلطة سيصفها بالمتنورة لتخفيف وقعها على ضميره، من أجل أن تضع لهم الحدود والقانون وتقول لهم ما يجب عليهم فعله. سيكتشف عندها بأنه حتى الأفكار اللاسلطوية نفسها بحاجة لسلطة ولفرض حدود وقيود وإلا ستعم الفوضى. حالهم حال الشيوعيين الذي تخيلوا مجتمعًا بدون سلطة وبدون طبقات وبدون ملكية، أي المساواة المطلقة، لينتهي بهم الأمر إلى دولة الاستبداد المطلق كما لم يعرفه القرن 20، ومع التكنولوجيا الحديثة والاقتصاد المعولم لا يبدو بأن القرن 21 سيكون مختلفًا من حيث الجوهر بفضل الليبرالية… ربما عندها فقط سيدرك هذا العصر بأن السلطة التي كان يصفها بالاستبداد هي الحماية الحقيقية من الاستبداد.

«عندما يجد الإنسان نفسه بدون إله، سريعًا ما يجد نفسه بدون ملك وبدون أب»

— خوان دونوسو كورتيس (قالها سنة 1852، والزمن أكد مقولته)

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى