مقالات

إشتياق الكناني تكتب : لعناية د.ديفيد نعيم سمعان

إشتياق الكناني تكتب : لعناية د.ديفيد نعيم سمعان

 

حينما كنت طفلة أخبرني الطبيب بأن الحمي ماهي إلا حبيبات الرمل التي كنت ألعب بها هذا الصباح، وبعدها صرت اختبئ من كل شي له علاقة بالرياح، الهواء،التراب واستمررت بالاختباء هكذا، وكان في كل عام يخبرني

الطبيب بأنها سوف تختفي العام القادم ويعود عامي وأعود انا لذات الأعراض وهذا القلب قلبي الأبيض ينبض متسارع الدقات، وكل عام تكثر الأدوية وتكثر معها الوعود ولكني أعود أحمل معي أدوية أكثر وأكثر.

هذا رفيقي المخلص وصديقي غير الودود ، هذه الليلة أعود لذات المستشفي في غربتي ونفس الحديث الذي أعرفه.
أنا اقاتل نفسي وتمسك مرضي بي.
أعود وانا التي ظننت بأني طبت في وقت ما.

رحلة يقطعها جسدك حينما يداهمه المرض، ويتوقف رويدا رويدا عن العطاء، كأنه يخبرك ويختبرك في ذات الوقت بأنه يستحق هنا الاستجمام والاستشفاء وتبدأ أنت رحلة أخري معه من طبيب إلى طبيب هكذا، ومن ثم تكثر معها الأدوية ورائحة المستشفيات ويتعود هذا الجسد

العليل للمحاليل والاوردة واستفهامات الطبيب ،رحلة تستلهم فيك عبرة ودروسا أنت لا تستفيد منها حينها ولا تدركها في وقتها ولكنها تدركك وتغوص فيك، كما تنساب المحاليل في وريدك وتسمع أذنك طرقاته هكذا نقطة نقطة تختلط مع دما ئك، وأحيانا تري كريات دمك

ترفضك وتهرب منك وقد تركض ركض الخائف منك وليس إليك، ويخبرك الطبيب بأنها “عينة”لمعرفة دائك، ولكنها في الحقيقة تتخلى عنك لأنك ارهقتها واستهلكتها وأمرضتها فلا فائدة منها لك ولا لها منك فائدة، تتخلى عنها وانت مدرك كما أخبرك طبيبك بأنها “عينة”ولكنها جزء عظيم من شريان دمائك عاش فيك وعشت فيه رحلة عمر إلى أن أرهقته فمرض.

هكذا فعلت أنا بجزء عظيم في، جزء يحملني ويتقبلني ويسند جسدي، تركته على طاولة الأطباء يدرسونه ويختبرون علته وكنت أنا أهديه لهم مرة ومرات هباء ومرة واحدة بإرادتي لأنه أرهقني وأتعب هذا الجسد، فلم يا صديقي تتخلى عني ونحن ياداب بنبتدئ!

وحينها تصبح صديقا للمستشفيات بإهمالك ورعونتك وبطيشك وضعف إهتمامك وطريقة حياة تتبعها في مسارك وهي ربما تكون خطأ وهذا الخطأ يأخذك إلى هلاك حتمي، ويأتي بالإعياء وينبهك ويهمس لك سأجلس قليلا وتكفل إنت بالباقي، يبدأ بعدها المرض يعانقك بقوة ،

لتجد جسدك يمر أمامك على سرير المستشفيات وتحوم حولك الملائكة البيضاء وتهدأ انت مجبرا او مختارا فهذا المريض هو جسدك وانت استهلكته وارهقته في ممرات حياتك وتفاصيلك المرهقة، وهنا أيضا تمر عليك الأيام والليالي وانت على طاولة التجريب تارة يجد الطب شفاء علتك، ومرة يختبرون صبرك بأن سبب هذا المرض هو إهمالك وركضك خلف أحلامك وأخذك همسات جسمك حينما كان يخبرك بالراحة ومعاودة الطبيب بأنها غنج

ودلع وأن لا شئ بك، وهي أوهامك وقناعتك هي التي تأخذ بك وتتخذك حصنا منيع تستند به وتظن أنك بخير، فهل أنت بخير؟
لن تختبر هذه الحقيقة إلا وأنت على سرير المرض.
فرفقآ بهذا الجسد.

سنوات قضيتها أركض هنا وهناك أبحث عن دواء، وكنت كلما وجدت ضالتي بالشفاء، هاجمني مرضي بقوة ويظل يضرب في جسدي ، رحلة لم أستوعبها ومازلت لا أفهمها، كل ما أفعله أركض هكذا بين أدويتي ٱخذ جرعة يوما ويومين وأسبوعا وشهرا ويهدأ المرض، فأفرح أنا بالعافية

والشفاء وأعود أركض في عجلة الحياة وأتسابق معها مرة أخري، ولكن لا أحد يعبر في هذا السباق، لأن ساعتك البيولوجية تمرض، ترهق،تتعب،وتزداد بعدها نقطات التوقف في قطار الحياة، ولكننا أيضا مرة أخري لا نستوعب ولا نقرأ إشارات التوقف ولا نأخذها كدرس يفاد منه، فقد كنا دائما في عجالة واستعجال وركض في دروب الحياة.

حينما اشتد المرض وأصبح رفيقي وصديقي الوفي لسنوات، حينها أدركت بأن علتي لها دواء ولكن ربما ليس هنا وإنما هناك في مصر المؤمنة التي حينما تصل لها يمر بك شريان وفيض من مشاعر لا تستوعبها ورحلة أخري

تعبرك، تري فيها نصف آخر من النيل والأرض والزرع الذي يعانق طمي النيل الأزرق، فتري جزءا أصيلا من مقرن النيلين يختلط هنا مع هذه الأرض الذهبية الجرباء ليحولها إلى بقعة خضراء تتشكل بعدها لوحة جميلة يرسمها فنان عظيم وتزدهر بعدها روحك وتستجم الأنفاس وتلتقط عبير رائحة الأمل وتبدأ رحلة أخري تبحث فيها عن دواء.

من حسن حظي وجميل أقداري، أن تأخذني إلي دكتور” ديفيد نعيم سمعان “يستقبلك باسمآ كأنك أحد أفراد عائلته ،ويؤنسك لا يفحصك ولا يشرحك، لديه قدرة عظيمة وهبها له الله بأن جعله طبيبا، أمثاله الملائكة البيضاء التي تخبرك بأنك بخير ولا شيء يستدعي القلق

أو التوتر، هكذا كان د.سمعان يهدئ جسدك العليل بالدواء ويشير لك إلى مكان الداء، كانت علتي غير تلك التي كنت أخذ لها الدواء لسنوات مع أطباء ،رغم أنها هي التي جئت أشكو منها وأركض منها وأطلب منها أن تتركني وتغادرني لسنوات، كانت بسيطة هكذا أخبرني د.سمعان، ولكنها أخذت سنوات من عمري ومن رحلة البحث عن دواء.

بعد أول رحلة استشفاء رأيت مرضي أنا يشفي ورأيته في أحد الصباحات يلوح لي وكأنه يودعني وفي ذات الوقت يهددني بأنه ياويلي لو أهملت الدواء فسيعود لذات المكان ويبتسم صديقي العزيز، وأعود أنا بعد سنوات أعشق الصباح وأفرح به، فلا صوت سعال ولا رحلة استرجاع للأمعاء ولا ضيقا في التنفس ولا إرتفاعا في دقات قلبي الأبيض.

هدأت كل تلك الأصوات وعاد لحياتي بريقها وعدت أعشق الصباح، وأشتاق ل “شاي أمي”ورائحة المكان وصوت زقزقة العصافير في شجرة منزلنا، إشتقت للفجر وأشعة الصباح، فالحمد لله الذي استطاب لهذا الجسد أن يستجم وأن تحفه العافية بعد سنوات.

ذات مرة عاودت فيها د.سمعان أخبرني بعد ابتسامة أن لا “شاي باللبن “بعد الآن، بعدها قلت بيني وبين نفسي ليبقي مرضي معي ولكن لا تحرموني من “شاي باللبن” ولمحت بعدها كوبي ذاك الذي ينتظر عودتي بعد دقائق لنرتشف

أنا وهو سر الحياة، فكيف يحرمني طبيبي منه ويأتي تنبيهه على سبيل الجد والصرامة وكنت بعدها سأقول له، فليبقي مرضي ولا أترك رفيقي”شاي باللبن ” .

ثم أدرك د.سمعان هذه المعضلة وإضافة كجرعة دواء مرة في اليوم، فهدأت نفسي وربما هتف “كوبي”هناك ورأيته يرقص ويغني عاش د.سمعان.

عدت لطبيعة الحياة بعد إن استطاب جسدي وهدأت أمواج مرضي ولكنها لا تفارقك ولا تتركك هكذا أخبرني د.سمعان إن لم أنتبه وإن لم أستوعب حقيقة المؤثرات التي تهاجم كبركان ويستفيق بعدها مرضي.

ود.سمعان يحب أهل السودان ويزورهم ويزورونه ويحبونه، فهو مثل هذا النيل الذي ينساب عبر رحلته اليومية يقطعها من أقاصي بحيرة تانا لمصب البحر المتوسط، جل ما يفعله هو الهدوء والابتسام.
ويستقبلك د.سمعان بها ويودعك بذات الابتسامة ابتسامة النيل العظيم.

يتحدث لهجتنا العامية ويستوعبها وأنت حينما تتحدث معه، لا تبحث عن معاني الكلمات ولا مفرداتها فهو طبيب إبن السودان، فاللغة بوابة الإستيعاب وعملة العبور إلى أي مكان.

رحلتي بدأت ولم تنته بعد، ولكنها كانت رحلة بحث عن أجوبة واستفهامات كثيرة في مخيلتي ووجدت لمعظمها جوابا عند د.سمعان.

شكر وتقدير وامتنان بعد الله سبحانه وتعالى لهذا الطبيب الإنسان إبن مصر ولكنه إبن السودان بنبله وخلقه وابتسامته التي لا تفارق المكان. فشكرا جزيلا أيها الطبيب الإنسان.

أمدرمان لا تفارقك ولو أنت فارقتها طيفها في الصحو والمنام، فامدرمان السودان والسودان أمدرمان بضعة من القلب وكل القلب لهذا الوطن، ولكن الوضع يفطر القلب

وهذا الجرح الذي مازال يئن وهذه الدماء التي تسقي حقولا من الغضب والحزن ودموع الأمهات الثكالي، فيا وطني لم يحن الوقت ولم يطب لك الشفاء.
فهل يا دكتور ديفيد نعيم نهايةمعاناة وطني تحتاج لطبيب مثلك يطبب جرحه ويعيد أمنه؟

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى