منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. فانلة داخلية..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق .. فانلة داخلية..!
“حين تضعف مؤسسات المعرفة، تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى مدارس، والمعلقون إلى أساتذة في صناعة الوعي الزائف”.. الكاتبة..!
قبل بضعة عشر عاماً كتبتُ مقالًا بعنوان “فانلة داخلية”، بدأته بعبارة للدكتور مصطفى محمود، شبَّه من خلالها مسالة الشغف في مؤسسة الزواج بالفانلة الداخلية، التي نشعر بها في ذات اللحظة حين نرتديها ، ثم تعتاد أجسادنا عليها حتى نكاد ننساها، ولا ننتبه لوجودها إلا في اللحظة التي نقوم فيها بخلعها من جديد، وهكذا..!
كان المقال عن تلك المدافعات التي تحدث بين مشاعر الحب ومشاعر الاعتياد داخل مؤسسة الزواج، بعد أن يتحول الهمس إلى شخير، وبعد أن يتمدد الملل على أريكة الشغف، وكيف يمكن للشغف – الذي تبدو علاقته بوعي الإنسان طردية في مثل هذه الأحوال – أن يكسب في معركة تبدو في ظاهرها خاسرة.. إلخ..
ثم ها هي الفانلة تتحول اليوم إلى موضوع تريند قوامه جملة غنائية تعبر عن موقف سياسي “هدنة بتاع فنيلتك”. لكن الفانلة نفسها تصلح للتشبيه في مثل هذا المقام أيضاً، من حيث طبيعة التريند نفسه وعلاقته بمستوى الوعي الإنساني “وقعه عند الجمهور، وعمره الافتراضي في الذاكرة الجمعية، وتأثيره من عدمه في الرأي العام الذي يتقلب بين التفاعل والنسيان، كما يتقلب الشعور الإنساني بين حرارة الافتقاد وبرودة الاعتياد”..!
التريند في جوهره ظاهرة نفسية واجتماعية، تعكس استجابة جماعية لما يثير الحواس لا العقول، وتكشف هشاشة البنية المعرفية في المجتمعات التي تستسلم لانفعالات اللحظة. هو حدث يتغذى على الدهشة، ويعيش على التكرار، ويموت حين ينتهي دوره في تحريك الجماهير..!
وفي عالم مضطرب تحكمه الشاشات وتختلط فيه الحقائق بالأوهام، تحول التريند إلى معيار زائف لقياس الوعي، وإلى سلطة غير مرئية تُوجِّه دفة الذوق العام وتعيد صياغة القناعات والمواقف..!
في أزمنة الحروب والكوارث والأوبئة، تتضاعف خطورة هذه الظاهرة. فالإشاعة في مثل تلك الظروف لا تكون مجرد انحراف عن الحقيقة، بل تتحول إلى سلاح يوجَّه نحو الإدراك العام، يصنع الخوف أو الأمل أو الكراهية حسب الجهة التي تديره. والمجتمعات المنهكة تبحث دائماً عن تفسيرات سريعة، لذلك تجد في التريندات ملاذاً نفسياً أكثر مما تجد فيها معرفة حقيقية..!
هنا يتجلى الفرق بين العامة والنخبة. فالعامة تتحرك وفق الاستجابة الانفعالية، بينما تقع على النخبة مسؤولية إعادة ترتيب الإدراك الجمعي، وتثبيت المعنى وسط الفوضى. والنخبة – حين تكون في مستوى دورها – لا تنافس في سرعة النشر، بل في دقة الفهم. هي لا تُطفئ ضوء الشاشة، لكنها تذكر الناس بوجود نافذة أخرى على الواقع..!
غير أن المعضلة الكبرى في زماننا هذا هي أن بعض النخب نفسها قد انزلقت إلى منطق التريند، فاستبدلت دورها التنويري بدور تفاعلي، وانشغلت بتعزيز حضورها الرقمي أكثر من انشغالها بتعزيز الوعي العام. وهكذا صار المثقف يلهث خلف الجمهور بدلاً من أن يقوده، وأصبح الرأي المتزن عملة نادرة في سوق تحكمه الإثارة وردود الأفعال السريعة..!
إن وعي الإنسان اليوم يواجه تحدياً وجوديًاً، كيف يفرز بين ما يُقال له وبين ما ينبغي أن يفكر فيه بنفسه؟. كيف يحافظ على استقلاله الذهني وسط هذا الطوفان من المعلومات؟. الإجابة تبدأ من التربية المعرفية، من بناء عادات التفكير النقدي، ومن الإيمان بأن الحقيقة لا تُقاس بعدد الروايات بشأنها، بل بقدرتها على الصمود أمام التساؤل..!
الفانلة التي كتبتُ عنها يوماً كانت رمزاً للعلاقة بين الاعتياد والشغف. واليوم أجدها رمزاً لعلاقة الوعي بالزمن الذي نعيش فيه، نرتدي الأخبار كما نرتديها، نعتادها حتى تزول دهشتنا، ثم نخلعها حين يأتي غيرها. لكن ما يبقى في النهاية هو الجسد نفسه، أي وعينا بما نرتديه، وقدرتنا على التمييز بين ما يمنحنا الدفء وما يترك فينا أثراً من العتمة..!
إن مقاومة سيطرة التريند ليست دعوة إلى الانعزال، بل دعوة إلى الاستبصار. فالوعي لا يُصنع من الصمت، بل من القدرة على الإصغاء النقدي لما يدور من حولنا. وحين تصبح الإشاعة أسرع من الحقيقة، لا بد أن تكون المعرفة أعمق من الانفعال!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر: صحيفة الكرامة





