
كبد الحقيقة
د. مزمل أبو القاسم
الصفعة المؤلمة تنسف جيوش الجهل النشط
الدروس المستفادة من انتصار المريخ التاريخي في (كاس)
اتحاد الكرة ملزم بتعديل تشريعاته لمواكبة مقتضيات القضية التاريخية
- من محاسن قضية (كاس) التي دخل بها نادي المريخ التاريخ من أوسع الأبواب بحسبانه أول نادٍ سوداني يخاصم اتحاده ويستعيد حقه منه بقرار دولي صادر من أكبر محكمة تحكيم رياضي في العالم، منح النادي لقب البطولة الكروية الكبرى في البلاد.
- ومن بهرج القضية وحسنها أنها ساهمت في تثقيف العامة، وإحاطت الرياضيين علماً بالنهج الذي تعمل به أكبر محكمة تحكيم رياضي في العالم أجمع، وزودتهم بثقافة جديدة تتعلق بالقانون الذي يحكم عمل كاس، والطريقة التي يتم بها التقاضي، وأوضحت لهم أن في سوح العدالة متسع لرد الحقوق إلى أهلها، وأن (سيدي بي سيدو).
- ومن فوائدها المنظورة في المستقبل القريب أنها ستدفع، أو يفترض أن تدفع الاتحاد السوداني لكرة القدم لتعديل لوائحه، بعد أن أثبتت له كاس خطل بعضها وعواره وعدم مواكبته لما يحدث في العالم من حولنا.
- مثال على ذلك ما أوردته محكمة كاس عن وقوع عبء إثبات المخالفات على الاتحاد لا الأندية.
- يلزم الاتحاد الأندية بتحديد البطاقات الصفراء والحمراء التي يحصل عليها اللاعبون مثار الشكاوى، وتسمية المباريات التي أُشهرت فيها، بادعاء أن لائحة المسابقة تلزم الشاكي بإيراد (التفاصيل).
- لم يرد في اللائحة نص صريح يلزم النادي الشاكي بحصر البطاقات وتسمية المباريات التي أشهرت فيها، ومع ذلك ساد خطأ شائع مفاده أن الشاكي ملزم بجردها، وقد قفل الحكم الصادر من كاس ذلك الباب نهائياً، بعد أن أكدت المحكمة أن الشكوى التي قدمها المريخ عن طريق مدير الكرة أيمن عدار استوفت كل المطلوبات القانونية.
- فيها حدد عدار اسم اللاعب المخالف واسم ناديه ورقم قميصه ونوع المخالفة (نيله ثلاث بطاقات صفراء).. وكان ذلك كافياً لإقناع المحكمة بأن الشكوى سليمة لا عيب فيها ولا نقص، علماً أن عدار تعرض بسببها إلى طوفان من السخرية والاستهزاء ممن لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون.
- ذكرت مذكرة الدعوى الاستئنافية المريخية أن الاتحاد السوداني تعمد التمسك بالشكليات كي يتهرب من البت في جوهر النزاع، واتفقت المحكمة معه في ذلك، بل استعارت في حكمها مصطلحاً أورده الخبير حسن الكوباني بنصه (Exessive Formalism)، أي الإيغال في التمسك بالشكليات على حساب الجوهر.
- كلنا تابعنا كيف تفنن أعضاء لجنتي المسابقات والاستئنافات في التشبث بالشكل، بالحديث عن أن عدار لا يمتلك تفويضاً (كتابياً) من المريخ لتقديم الشكوى، وأنه لم يورد التاريخ، ولم يحدد المباريات التي نال فيها هشام جنية بطاقاته الثلاث، ولم يورد مطلب المريخ من الشكوى، وما إلى ذلك من شكليات أريد لها أن تبرر رفض وإجهاض الشكوى لمجرد أن قبولها سينزع لقب الدوري من المريخ ويحوله إلى الهلال.
- عابت كاس على الاتحاد إقراره بوقوع المخالفة وتطبيقه للعقوبات الجوازية الواردة في المادة (8) من اللائحة، ورفضه تطبيق العقوبة الوجوبية، التي تلزمه باعتبار مريخ الفاشر مهزوماً وتحويل نقاط المباراة للمريخ، وذكرت أن عدار مفوض لتقديم الشكوى بعد أن ثبت لها أن نادي المريخ تعاقد معه للعمل مديراً للكرة، سيما وأننا أرسلنا للمحكمة العقد الذي يربطه مع المريخ، معززاً بشهادة صادرة من مجلس المريخ لمن يهمه الأمر، مفادها أن أيمن عدار عمل مديراً للكرة خلال الفترة التي وقعت فيها الشكوى.
- اهتمت كاس بذلك العقد واعتبرته موجباً للتفويض، بل أقدمت على حساب قيمة مرتب عدار بالفرنك السويسري، فوجدت أنه يساوي مائتا فرنك، وذكرت هيئة المحكمة في حيثياتها أن عبء إثبات المخالفة لا يقع على عاتق المدعي (المريخ) بل على عاتق المستأنَف ضده (الاتحاد)، لأنه يمثل الجهة المنظمة للبطولة، والمالكة لسجلاتها، وذكرت أن الأندية لا تمتلك أي آلية تمكنها من رصد البطاقات والمخالفات، وأن تلك المهمة تندرج في صميم عمل الاتحاد.
- عندما دفع الاتحاد بأن أيمن لم يكتب التاريخ في الشكوى ذكرت هيئة المحكمة أن مراقب المباراة دون التاريخ والتوقيت في نفس ورقة الشكوى، وأن الاتحاد أدرى بالتوقيت لأنه هو الجهة المنظمة التي حددت موعد المباراة وتاريخها.
- كذلك اتفقت هيئة المحكمة مع المريخ في أن الاتحاد لم يطبق العقوبة الإلزامية (Mandatory Sanction) التي تقضي باعتبار نادي مريخ الفاشر خاسراً لنتيجة المبارة (0-2) وفقاً للمادتين (8-3) من لائحة مسابقة الدوري الممتاز 2018 و(55-1) من لائحة الفيفا للانضباط.
- أهم من هذا وذاك أن القضية ستسهم في تصحيح الخلط الفاضح والفادح لدى الاتحاد السوداني لكرة القدم، في ما يختص بتعريفه للشكاوى المقدمة حول أهلية اللاعبين.
- يتوهم الاتحاد أن الشكوى المقدمة طعناً في أهلية مشاركة أي لاعب تمثل أمراً يتعلق (بنتيجة المباراة)، وقد تعامل الاتحاد ممثلاً في رئيسه برد الفعل المتوقع والمعتاد، عندما أمر بإدخال نص جديد في لائحة مسابقة الدوري الممتاز للعام 2019، يمنع تقديم الشكاوى المتصلة بنتائج المباريات إلى محكمة كاس!
- كان التعديل بالغ السذاجة، أولاً: لجهة أن النظام الأساسي للاتحاد جوَّز استئناف كل القرارات الصادرة من لجنة الاستئناف التابعة للاتحاد السوداني إلى محكمة كاس، ولائحة المسابقة لا تعلو على النظام الأساسي الذي يمثل دستور الاتحاد.
- ثانياً: المخالفة المتعلقة بإشراك لاعب موقوف في مباراة رسمية (انضباطية الطابع)، ولا تتعلق بنتيجة مباراة كما يتوهم شداد، الذي كشفت هذه القضية أن علاقته بالتشريعات الرياضية والقانونية أسوأ من علاقة معتصم محمود والرشيد وحسن فاروق ورفاقهم بالصحافة والقوانين الرياضية على حد السواء.
- أثبتت المحكمة تلك الحقيقة بجلاء، بعد أن أشار المريخ في الدعوى التحكيمية المقدمة إلى كاس إلى تجاهل المدعي عليه بشكل تعسفي للأحكام الوجوبية بلوائح الاتحادين السوداني والدولي لكرة القدم، على الرغم من انه لا مجال للتقدير أو التفسير أو إجازة ظروف مخففة تؤخذ في الاعتبار كما لا يجوز على صلاحية التصرف بإشراك لاعبين غير مؤهلين خارج قواعده الإلزامية المنظمة لذلك.
- لإثبات تجاوز الاتحاد السوداني للوائحه ولائحة الفيفا أشار المريخ إلى الدعوى التحكيمية “الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ضد نادي سيون السويسري” (كاس 20111/و2574) وبالتحديدالفقرة (131) من حيثيات القرار، حيث ذكرت هيئة التحكيم ما يلي: (آخذين في الاعتبار مبدأ النسبية، لا ترى هيئة التحكيم أي قواعد بديلة للائحة الدوري الأوروبي، ولذلك فإن اعلان خسارة المباراة التي يشارك فيها لاعب غير مؤهل (Ineligible Player) هو التدبير المناسب الذي لن يتسنى تحقيقه من خلال عقوبة أخرى مثل الغرامة المالية أو خصم النقاط، كما يبدو غياب البديل واضحاً وعلى وجه التحديد في مرحلة الإقصائيات للبطولة (خروج المهزوم) التي لا مجال فيها لخصم النقاط).
- تشرك لاعب موقوف تعتبر مهزوماً من فورك، ولا يكون النادي المتضرر من الإجراء أو المقدم للشكوى ملزماً بتحديد المباريات التي نال فيها اللاعب المخالفة بطاقاته الصفراء.
- ذلك الفقه القانوني ينبغي أن يسود ويطبق في بطولة ابتداءً من الموسم المقبل.
- بل إن كل الاتحادات المتطورة والمحترمة لا تحوج أنديتها إلى تقديم شكاوى، لأنها ترصد البطاقات بدقة وتضعها على مواقعها الإلكترونية مما يسهل رصدها وتحديدها، ويجنب الأندية شرور ارتكاب أخطاء إشراك لاعبين غير مؤهلين في مباريات رسمية.
- مثال على ذلك ما يحدث في مسابقتي الأندية اللتين ينظمهما الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وتشارك فيها أربعة أندية سودانية، تلعب عشر مباريات إِفريقية في الحد الأدنى سنوياً.
- في كل تلك المباريات يسمي الكاف عبر مراقبيه اللاعبين الموقوفين، ويخطر بهم أنديتنا في الاجتماعات الفنية التي تسبق المباريات، فلماذا لا يقلد اتحاد الجمود والتخلف ما يفعله الكاف أمامه كل عام؟
- ما الصعب المعقَّد في رصد البطاقات ووضعها على موقع الاتحاد على الإنترنت، بعد أن كلّف إطلاقه خزينة الاتحاد عشرات الآلاف من الدولارات، ومع ذلك بقى خالياً من أي رصد لمسابقات الاتحاد، بل خلا حتى من اللوائح المنظمة لعمل الاتحاد؟
- كما إن سابقة قضية كاس يجب أن تدفع الاتحاد إلى تعديل لوائحه للقضاء على التضارب المخل بين لائحتي مسابقة الدوري الممتاز والانضباط.
- القضايا المتصلة بإشراك لاعبين غير مؤهلين، وبالمخالفات انضباطية يجب أن تنظرها لجنة الانضباط لا المسابقات.
- هناك جزئية أخرى تتعلق بفشل اللجنة الأولمبية السودانية في إنشاء هيئة التحكيم الرياضي الوطنية، على الرغم من أن قانون هيئات الشباب والرياضة المجاز في أواخر العام 2016 منح اللجنة كامل الحق في إنشاء تلك المحكمة.
- إخفاق اللجنة الأولمبية في تكوينها (على مدى قرابة ثلاث سنوات) اضطر نادي المريخ إلى اللجوء إلى محكمة كاس، ليتكبد أموالاً ضخمة، وعنتاً بالغاً، ووقتاً طويلاً، كان بمقدور النادي تلافيه حال وجود هيئة تحكيم وطنية قادرة على رد الحقوق إلى أهلها بفعالية وكلفة بسيطة، تناسب إمكانات أنديتنا الفقيرة.
- وصل المريخ إلى كاس لأنه امتلك ذخيرة رائعة من صفوة العشاق والمحبين، ممن تدافعوا بالمناكب لنصرة ناديهم ورفده بالمال، وبكل تأكيد فإن تلك الميزة لن تتأتى لمعظم أندية السودان، إذ يستحيل عليها أن توفر أكثر من 45 ألف دولار لتحمل نفقات التحكيم في كاس، وتوفير الأموال اللازمة لتكليف محامٍ أجنبي لتمثيل النادي في كاس، وسداد قيمة المراسلات الدولية عبر البريد السريع، وكلفة ترجمة المستندات والوثائق المتعلقة بالقضايا مثار النزاع.
- وصل المريخ إلى كاس لأنه المريخ، فهل تستطيع بقية الأندية أن تحذو حذوه وتتمتع بما يتوافر له؟
- لذلك نطالب قادة اللجنة الأولمبية السودانية أن يسارعوا إلى تكوين الهيئة وعليهم أن يستعينوا بالخبير الرياضي الأول في السودان (الأستاذ حسن محمد السيد الكوباني)، إذا أرادوا لعملهم أن يكلل بالنجاح، وأرادوا للتشريعات التي تحكم الهيئة أن تأتي متكاملة ومتناسبة ومتواكبة مع التشريعات التي تحكم التحكيم الرياضي على المستوى الدولي.
- ختاماً أشير إلى خطل الخبر الساذج الذي نشره أحد المواقع الإلكترونية أمس، وزعم فيه أن الدكتور كمال شداد عكف على تقديم استئناف للمحكمة الفيدرالية السويسرية وأنها (أي المحكمة) أوقفت تنفيذ القرار الصادر لصالح المريخ.
- كاتب الخبر يتوهم أن محكمة كاس تعمل بطريقة محاكم العُمد والنظام العام، ناسياً، أو جاهلاً على الأصح بكونها المحكمة العليا في دولة متطورة تسمى سويسرا.
- لم يخالجني أدنى شك في أن الخبر مشتول بدرجة عالية من الغباء، لأن شداد لا يمتلك حق تقديم استئناف للمحكمة الفيدرالية السويسرية، إذ يتعين على الراغب في الطعن أن يوكل محامياً يتمتع بعضوية نقابة المحامين السويسريين، وأجزم أن غالب هؤلاء سيرفضون الترافع في هذه القضية، لأنهم سيعلمون من الوهلة الأولى أنها خاسرة وسترفض شكلاً.
- ومن يقبل توليها والترافع فيها ستكلف أتعابه الاتحاد أضعاف ما دفعه للمريخ لكاس والمحامي التركي طلعت إمري كوشاك.
- نعيد ونكرر: قضية المريخ المرفوعة لمحكمة التحكيم الرياضي تتعلق (بتحكيم) وليست دعوى جنائية ولا مدنية ولا تجارية.
- وقرارات التحكيم ملزمة للطرفين، وواجبة النفاذ، ويصعب نقضها إلا بشروط بالغة العسر، تتصل بفساد عملية للتحكيم نفسها.
- ارتضى الاتحاد السوداني أن يذهب إلى كاس في قضية تحكيمية بأمر نظامه الأساسي، بعد أن نازع وادعى أن المحكمة غير مختصة، فردت عليه كاس بنظامه الأساسي، ثم سعى إلى إجهاض الدعوى بإلزام المريخ بسداد كامل أتعاب التحكيم، توهماً منه بأنه لن يستطيع سدادها، وصدر الحكم النهائي والقاطع.
- الاتحاد ملزم بتنفيذه، وعليه أن يكف عن الفرفرة والجقلبة، مع تمام علمنا بأن الصفعة (حاااارة)، بل موجعة، لأنها أتت على حين غرَّة، لتقضي على فيوض المكابرة الفارغة والجهل الفاضح والغرور الأجوف.
- انتصر المريخ للعدالة، وخسر الاتحاد وحق له أن يستفيد من الخسارة، ويستخلص منها الدروس والعبر، بدلاً من محاولة تعطيل تنفيذ القرار مكايدة لمزمل أو سواه.
- أركزوا.. إن وقع القدر ما بنفع الجقليب.