مقالات

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق..في مآزق النخبوية..!

منى أبوزيد تكتب: ..هناك فرق..في مآزق النخبوية..!

 

 

“الشعب يعرف كل شيء حتى حين لا يعرف شيئاً”.. آرنست همنجواي..!

 

في مشهد يصلح أن يكون لقطة افتتاحية في فيلم سياسي ساخر، جلس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المكتب البيضاوي بعد فوزه الأخير، متكئاً على كرسي القوة، وهو يوزع ابتسامته المشاكس..!

وعلى الجدار خلفه كانت تطل صورة أندرو جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية، وأول “مشاغب رئاسي” يدخل البيت الأبيض ببطاقة انتخابية اسمها “معاداة النخبة”..!

يومها قال أحد المحللين إن ترامب لا يُخفي رموزه، بل يضعها على الجدار، فالصورة لم تكن للزينة، بل كانت أشبه برسالة سياسية موجهة إلى الجمهور مباشرة، بلا وسطاء “إنني يا سادة خليفة صاحب الصورة، الذي اختاره أجدادكم بعد أن تجرأ على هيمنة النخب فحكم رغماً عنهم، وليس بهم”..!

إذن معاداة النخبة ليست بدعة في سياسة ترامب، بل هي ميراث سياسي قديم يُعاد تدويره كلما تعبت الشعوب من حذلقة النخب واستئثارهم بالصدارة “من أنتم، نحن نعرف أكثر منكم، ونرى أوضح منكم، ونستحق أن نحكم أنفسنا بدلاً عنكم”..!

ولأن الفكرة جذابة فقد نجت من عراقيل ومطبات عصر ما بعد الحداثة والليبرالية والذكاء الاصطناعي، ونجحت – بشكل مدهش – في أن تصبح بطاقة صعود للسلطة، لا شعارًا احتجاجياً ضدها..!

ترامب – الذي بنى ناطحة سحاب في نيويورك باسمه، وأدار برامج تلفزيون الواقع كما يدير مسرحية – لم يكن غريبًا عن النخبة، لكنه حين قرر الترشح للرئاسة، خلع بذلة النخبة وارتدى قميص “الرجل العادي الذي يكرههم جميعاً”، ثم مشى إلى الانتخابات كمن يمشي إلى معركة شخصية..!

رفع سيف الشعب، ولوّح به ضد الصحافة، القضاء والمؤسسات والدولة العميقة، وكان كل هجوم عليه يزيده شعبية، وكل فضيحة تُفسَّر على أنها دليل إضافي على أن النخبة تخاف منه، لا عليه..!

وقد شهد عصر الرئيس جاكسون، على غرار عصر ترامب تطرفاً ديمقراطياً مَوتفشياً لمعاداة النبوية، وكيف أنه يمكن لأي شخص أن يتولى شؤون أي منصب سياسي، دونما أي اشتراطات بشأن التعليم والوضع الاجتماعي. وقد أثارت تلك المساواة حفيظة النخب..!

اليوم، تعود “الجاكسونية” في نسخة تويترية محدثة مرتجلة وصاخبة،فلرئيس ترامب ليس سياسياً من طراز عتيق، بل منتج تلفزيوني أُعطي كرسياً نووياً وميكروفوناً عالمياً،ومع ذلك، – أو ربما لأجل ذلك بالضبط – أحبه ناخبوه، لأنهم رأوا فيه شيئاً من غضبهم، وسخريتهم، وعنادهم، وربما تهورهم أيضًا..!

إذن تلك الصورة التي علّقها ترامب لم تكن تذكارية فقط، بل كانت مشهدًا رمزيًا لمرحلة سقوط الثقة، وانفلات الخطاب، وصعود “المشاكسين الرسميين” إلى مواقع القرار. إنها المرحلة التي صارت فيها معاداة النخبة برنامجاً انتخابياً قابلاً للتسويق والفوز..!

أما في عوالمنا نحن وفي مجتمعاتنا فإن لمعاداة النخب طقوسها الخاصة، فهي أحيانًا ترتدي ثياب الدين، وأحياناً تُقال على لسان ناظر قبيلة، وأحياناً تنسرب في خطاب جماهيري يهاجم الذين يتحدثون لغة لا تُفهم، ويقترحون حلولًا لا تُنفذ..!

لكن الفارق بيننا وبينهم أن النخب عندهم ما تزال محل مساءلة فقط، بينما عندنا كثيراً ما تصبح محل شبهات، وهناك حتى ينجح الأمر قد تُستبدل النخبة، بينما هنا غالباً ما لا بد أن تُستأصل..!

في النهاية، ترامب وجاكسون سيرة مزدوجة لفكرة واحدة “إذا أردت أن تحكم شعباً فابدأ أولًا بمعاداة من يظن نفسه أحق منه بحكمه”..!

إذن تلك الصورة على الجدار كانت تلويحة تاريخية متبادلة “أنا لست وحدي، هنالك من كان قبلي وهنالك من سيأتي بعدي، لتبديد أوهام النخبة وتأكيد خطل التعويل عليها!.

 

 

 

munaabuzaid2@gmail.com

 

المصدر : صحيفة الكرامة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى