محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين المشي والسعي: فلسفة الحركة في الميزان القرآني

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..بين المشي والسعي: فلسفة الحركة في الميزان القرآني
تتجلّى في هاتين الآيتين الكريمتين رؤية الإسلام الكاملة للإنسان وهو يتحرك في الوجود بين أرضٍ ممهَّدة وآخرةٍ مقصودة، فلا يُترك نهبًا للمادة فينسى المصير، ولا يُدفع إلى الغيب المجرد فيُعطّل الحياة، بل يُربّى على منهج جامع يجعل الحركة والعمل والنية والمآل مسارًا واحدًا متكاملًا.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾
في الآية الأولى يضع القرآن الأساس الأول للحياة الإنسانية: الكون مُسخَّر، لكنه لا يعمل بدلًا عن الإنسان. فالأرض وُصفت بأنها ذلول، أي مهيّأة، قابلة، مطواعة، لكنها لا تُعطي من يقعد، ولا تُفيض على من ينتظر. ولهذا جاء الأمر الإلهي حاسمًا: ﴿فَامْشُوا﴾، أمرٌ بالحركة لا بالركون، وبالفعل لا بالتمنّي، وبالأخذ بالأسباب لا بتعليق الحياة على الأماني. ثم جاءت الدقة القرآنية في قوله: ﴿فِي مَنَاكِبِهَا﴾، لتشير إلى أطراف الأرض ومسالكها ومواردها، في دلالة جامعة لكل ألوان الكسب البشري المشروع: زراعةً وصناعة، تجارةً وبحثًا، علمًا واكتشافًا، تخطيطًا وتنفيذًا.
ثم جاء الأكل متأخرًا في السياق: ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾، ليقرر القرآن قاعدة لا تختلّ: الرزق من الله سبحانه وتعالى، لكن طريقه العمل، وسنّته الحركة، ومفتاحه المشي في الأرض. فلا تعارض بين التوكل والأسباب، ولا بين الإيمان والعمل، بل التوكل الصادق هو الذي يدفع إلى الحركة لا إلى الجمود.
غير أن الآية — وهي تؤسس لمنهج العمران — لا تسمح للعقل أن يُفتن بالأرض، ولا للحركة أن تتحول إلى غاية مكتفية بذاتها، فخُتمت بتذكير قاطع: ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، ليبقى كل مشي في الأرض مربوطًا بسؤال المصير، وكل كسب محكومًا بميزان الحساب، فلا ينقلب العمل المادي إلى عبودية للهوى، ولا يتحول النجاح الدنيوي إلى غاية تُنسي الغاية الكبرى.
ثم تأتي الآية الثانية لتكمّل البناء من جهة القصد والميزان: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾، فالإرادة شرط، لكنها وحدها لا تكفي، لأن القرآن لا يمدح النيات المجردة، ولا يثني على الأمنيات التي لا تُترجم إلى فعل. ولذلك جاء القيد الحاسم: ﴿وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا﴾، أي سعيًا يليق بالآخرة، منضبطًا بشرعها، متوازنًا بين حق الله وحق الخلق، جامعًا بين تزكية النفس وإصلاح الحياة.
وسعي الآخرة في الإسلام لا يُختزل في الشعائر وحدها، ولا يُحصر في الطقوس التعبدية، بل يشمل — بعد إقامة أركان الدين — كل عمل يُقصد به وجه الله سبحانه وتعالى، ويُبتغى به نفع الناس، أو دفع الضرر عنهم، أو إقامة العدل، أو إعمار الأرض على هدىً من الإيمان. فالعمل الذي يبدو في ظاهره دنيويًا صرفًا، من زراعة وصناعة وطب وتعليم وإدارة واقتصاد، يتحول في ميزان الإسلام إلى سعي أخروي متى وُجّهت النية، واستقام القصد، وانضبط السلوك.
ثم جاء القيد الجامع: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ليؤكد أن السعي مهما عظم لا يستقيم بلا إيمان، كما أن الإيمان مهما صدق لا يثمر بلا سعي. إنها وحدة واحدة لا تقبل الانقسام، تُسقط الوهم القائم بين ما يُسمّى دينيًا وما يُسمّى دنيويًا، وتصنع إنسانًا واحدًا يعمل في الأرض وهو يعلم أنه إلى الله راجع.
وعند اكتمال هذا المنهج يقول الله تعالى: ﴿فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾، أي واقعًا في موضع القبول، ومحاطًا بفضل الله سبحانه وتعالى، ومجزيًّا عليه بما شاء من الكرم والعطاء، على وجه يليق بعلمه السابق، وحكمته البالغة، وغناه المطلق.
ومن دقائق هذا البيان القرآني أن هذا المشي — في منطق القرآن — ليس حركة مادية محايدة، ولا انتقالًا جسديًا مجردًا، بل قابلٌ لأن يرتقي ويتحوّل. فالمشي في الأرض متى اقترن بالإيمان، ولم يشغل صاحبه عن الفرائض والأركان، ولم يُتخذ ذريعة لترك واجب أو اقتراف محرّم، وابتُغي به وجه الله سبحانه وتعالى في إعفاف النفس، أو نفع الناس، أو عمارة الحياة، خرج من كونه مجرد انتقال، واستحال سعيًا تعبديًا كاملًا. وبهذا المعنى لا يعود السعي في مقابلة المشي، بل يصبح المشي نفسه داخلًا في دائرة السعي، متى انضبط بالنية، واستقام بالشرع، وتوجّه بالقصد.
وهكذا يتضح أن ما بين ﴿فَامْشُوا﴾ و﴿سَعَىٰ﴾ ليس مجرد انتقال لغوي، بل فلسفة حياة كاملة، تضبط حركة الإنسان في الدنيا، وتوجّه قصده إلى الآخرة، فلا يعيش ممزقًا بين العمل والإيمان، ولا منقسمًا بين الدنيا والدين، بل ساعيًا في الأرض وهو يعلم أن كل مشيه، وكل سعيه، وكل كسبه، وكل حركة من حركات حياته، لا تخرج عن دائرة العبودية الواعية، ولا تنفصل عن ميزان القصد، ولا تُطلب لذاتها، وإنما تنتظم كلها في قول الله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾





