مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..الويكة المفترى عليها

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..الويكة المفترى عليها

 

 

لم تُظلم مادة غذائية سودانية كما ظُلمت الويكة؛ هذا المسحوق البسيط في هيئته، العميق في جوهره، الذي أطلقت عليه بعض الألسن أحكامًا جائرة، ربما من باب المزحة، من نوع: “البامية ما فيها فائدة” أو “إنها لا تضر ولا تنفع”. وهي أحكام لا تصمد أمام أي تحليل علمي جاد، ولا أمام معرفة دقيقة بتراكيب هذا النبات الذي عرفه الإنسان منذ آلاف السنين في وادي النيل، ثم جاءت المختبرات الحديثة لتثبت أن ما ظنه كثير من الناس بسيطًا كان في الحقيقة كنزًا غذائيًا ودوائيًا نادرًا.

فالبامية التجارية التي تُزرع اليوم في الحقول وتُنتج للأسواق تمتلك فوائد معتبرة في حد ذاتها، إذ تحتوي على الألياف التي تنظم الهضم، وعلى فيتامين C ومضادات الأكسدة التي تقوّي المناعة وتقلّل الالتهابات، ولها أثر واضح في خفض سكر الدم بدرجة معتبرة. غير أن هذه الفوائد تبقى مرتبطة بكون الثمرة تُقطف خضراء وطرية، لم تبلغ بعدُ مرحلة النضج الكامل التي تتضاعف فيها المواد الغذائية وتمتلئ الخلايا بالبروتينات والمعادن والمواد الهلامية.

وهنا يتبدّى وجه التميّز السوداني حين ننتقل إلى الويكة، تلك البامية البلدية البرية التي تُترك حتى اكتمال نضجها، وتبقى على الساق حتى تجف طبيعيًا تحت شمس السودان. ففي هذه المرحلة تتراكم البروتينات وترتفع نسبة الميوسيلاج، وتزداد المعادن كالكالسيوم والمغنيسيوم والزنك. ولهذا تشترك الويكة مع البامية التجارية في أصل الفائدة، لكنها تتفوق عليها تفوقًا واضحًا؛ فتركيز البروتين فيها يصل إلى نحو 12–14%، وهو مستوى مرتفع يستحيل بلوغه في الثمار التي تُقطف قبل نضجها الكامل. كما تحتوي الويكة على كميات مقدّرة من الكالسيوم، وهو عنصر أساسي

لا يقتصر دوره على تقوية العظام والمفاصل فحسب، بل يسهم في دعم الصحة العامة كلها، من تنظيم عمل الأعصاب والعضلات إلى تعزيز توازن الجسم الحيوي، والمساعدة في سرعة تجبير الكسور واستعادة القوة الجسدية. وتزداد قيمة المواد الكثيرة والهامة التي تحويها الويكة — من بروتينات ومعادن وألياف هلامية — لأنها غذاء يومي أو شبه يومي حاضر في موائد الناس، مما يجعل أثرها التراكمي على الجسد أوضح وأثبت من كثير من الأغذية التي لا تُستهلك إلا نادرًا أو بصورة موسمية.

ولم يكن حضور الويكة في المطبخ السوداني صدفة، بل كان استجابة طبيعية لحاجات الإنسان في هذا المناخ القاسي، إذ تمنح الطاقة، وتحافظ على توازن الأملاح، وتساعد في هضم الأغذية النشوية، وتجعل الجسد أكثر قدرة على العمل والاحتمال. ولعل هذا يفسر ما كان يُقال عن آبائنا وأجدادنا من قوة وصلابة رغم بساطة غذائهم واعتمادهم على الويكة؛ فقد كانوا يأكلون مادة غذائية مركّزة، غنية بالبروتين والمعادن والألياف، لا تقل — بل تزيد — قيمتها عما تُنتجه الدول اليوم في صور مكملات غذائية باهظة.

وقد بدأ العالم الآن — من أوروبا إلى أمريكا إلى شرق آسيا — ينتج مسحوق البامية في كبسولات كمكمّل غذائي يُستخدم لدعم تنظيم سكر الدم، وتحسين الهضم، وخفض الكولسترول. وهذه المنتجات تعتمد على بامية تجارية خضراء تُجفف صناعيًا، ومع ذلك تُباع بوصفها مكملاً طبيعيًا ذا فوائد صحية معتبرة. فكيف إذا أدرك العالم قيمة الويكة البرية السودانية، التي تتفوق على هذه المساحيق في التركيب والتركيز والغنى الغذائي، فضلًا عن كونها منتجًا عضويًا بامتياز؟ وكيف نسكت نحن عن هذا التميز، ولا نمنح هذا الإرث الغذائي ما يستحقه من الاعتناء والتطوير؟

إن السودان يمتلك اليوم صنفًا نباتيًا نادرًا يستحق أن يُصنّف ضمن الموارد الوراثية الوطنية التي يجب حفظها وحمايتها من الاختطاف أو التعديل الوراثي، خاصة في عالم تتسابق فيه الشركات على تسجيل الأصناف النباتية الخاصة لاحتكار بذورها واستغلال قيمتها الاقتصادية. ومن واجب الدولة — كما تفعل الدول الواعية — أن تعلن أصناف بامية الويكة البرية ضمن ثرواتها الوراثية المحمية، وأن تعمل على حفظ بذورها، وتوثيق صفاتها، ومنع تهريبها أو إخضاعها لعمليات التعديل الوراثي التي تفقدها أصالتها. فهذه السلالة ليست مجرد نبات؛ إنها هوية غذائية وسيادية، وميزة تنافسية يمكن أن تدر على السودان ثروة حقيقية إذا أحسن تقديمها للعالم بمعايير علمية وتجارية حديثة.

لقد عُرفت البامية منذ آلاف السنين بوصفها من أفضل الأغذية النباتية التي عرفها العالم، غير أن السودان اختُص بصنفها البرّي الذي بلغ من التمام ما جعله أعلى مقامًا وقدرًا وفائدة بين سائر الأصناف. واليوم، بينما تحتفي المختبرات العالمية بمسحوق البامية في شكل كبسولات، نقف نحن أمام كنز غذائي لم يُعطَ حقه من التقدير، ولا حقه من الاستثمار، ولا حقه من الحماية.

وهكذا يتبين أن الويكة المفترى عليها ليست مجرد مكوّن يضاف للطعام، بل هي مادة غذائية كاملة، ومكمنُ معرفةٍ سودانية أصيلة، وإرثٌ يستحق أن يُعاد إليه الاعتبار العلمي والاقتصادي والوطني. وإذا كان العالم يطلب الآن مسحوق البامية في كبسولات، فالأجدر بنا أن نقدّم له الويكة السودانية — في صورتها الصحيحة — وأن نقدّم لأنفسنا قبل ذلك ما ضيّعناه من قيمة وما غفلنا عنه من كنز.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى