الأخبارالرياضة العالمية

محتال أم الأعظم في التاريخ.. هل ظلمنا بيليه أم بالغنا في تقديره؟

محتال أم الأعظم في التاريخ.. هل ظلمنا بيليه أم بالغنا في تقديره؟

– الآن أنت تحاول التقليل من بيليه؟ بيليه!

* بيليه مُبالغ في تقديره.. أنا لم أشاهده يلعب قط!

– لقد فاز بكأس العالم وهو في السابعة عشرة من عمره!

* حسنا، وماذا بعد؟ دعني أسألك؛ هل هو أفضل من ميسي؟

– هل سترلينغ أفضل من بيليه؟

* لا، ليس هذا ما أقوله، فقط أقول إن الرجل مبالغ في تقديره.. لم أشاهده يلعب قط! هل شاهدته أنت؟

(حوار بين جيسون كوندي وآندي غولدستين في برنامج “The Sports Bar” الإذاعي عبر شبكة “Talk Sport” بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2019) (1)

في تصريح سابق عفا عليه الزمن، أكَّد كريستيانو رونالدو أن بيليه هو اللاعب الأعظم في التاريخ. لا نعلم سبب هذا التصريح، ولكن رونالدو تراجع عنه ضمنيا في وقت لاحق عندما منح هذا اللقب لنفسه. المهم هنا أن رونالدو وُلد بعد اعتزال بيليه بنحو ثماني سنوات، وفعليا، لم يشاهده يلعب أبدا. (2)

 

في الواقع، هذه هي مشكلة الإنجليزي جيسون كوندي لاعب تشيلسي وتوتنهام السابق، الذي وُلد قبل رونالدو بنحو 16 عاما، ورغم ذلك فقد جزم أن بيليه “مُبالغ في تقديره” (Overrated) بالتعبير الإنجليزي. في الواقع، هذه العبارة كانت أكثر ما كرَّره في حديثه مع غولدستين.

 

كيف تُقيِّم لاعبا لم تشاهده أبدا؟ الإجابة تبدو سهلة؛ لا يمكنك تقييم لاعب لم تشاهده يلعب أبدا. إذن لماذا يستمر الناس في التأكيد أن البرازيلي لم يكن بهذه الروعة؟ ببساطة لأن الكثيرين يؤكدون العكس، مثل رونالدو، رغم أنهم لم يشاهدوه كذلك.

1982: Pele of Brazil scores the equalizing goal for the Allied POW's during the match against Germany in Paris featured in the filming of ''Escape to Victory'' . The match ended in a 4-4 draw. \ Mandatory Credit: Allsport UK /Allsportبيليه

هذا يُحوِّل مسار الحديث برمته إلى الانطباعات الشخصية، ومع الوقت، تتحوَّل هذه الآراء إلى مجرد ظاهرة صوتية لا أكثر. بمعنى آخر؛ إن كان هناك عدد كافٍ من الناس يؤكد أن بيليه الأعظم في التاريخ فسيصبح كذلك، والعكس بالعكس، حتى لو لم يشاهد أيٌّ منهم بيليه أبدا.

 

لسبب واضح، فإن هذه الديناميكية في تكوين الآراء -إن جاز أن نعتبرها آراء- مُغرية للغاية، ببساطة لأنها تمنح الناس شعورا لا يُضاهى بالقوة والتأثير؛ لا أحد شاهد بيليه بما يكفي، لذلك فكلمتي هي ما سيُحدِّد الأمر. هذه هي مشكلة منصات التواصل الاجتماعي الأزلية بالمناسبة.

 

منصات الحجارة

مشكلة منصات التواصل أيضا أنها تجعل السخرية من كل وأي شيء أمرا سهلا للغاية؛ بيليه رجل مُسِن، ولم يلعب إلا كأس عالم واحدة في عصر التلفاز المُلوَّن، وأكثر تصريحاته تنم عن معرفة ضحلة باللعبة، وأغلب تحليلاته وتوقُّعاته كانت خاطئة، بالإضافة إلى أنه لم يلعب في أوروبا أبدا. لو كان بيليه لاعبا في الزمن الحالي بهذه المواصفات لرُجم بالحجارة.

 

الأهم من ذلك أن بيليه رجل مُسِن، ولم يلعب إلا كأس عالم واحدة في عصر التلفاز المُلوَّن، وأكثر تصريحاته تنم عن معرفة ضحلة باللعبة، وأغلب تحليلاته وتوقُّعاته كانت خاطئة، بالإضافة إلى أنه لم يلعب في أوروبا أبدا، ولذلك كان هناك درجة من التسامح مع كل ما يقوله مهما كان مستفزا أو خاطئا، وحقيقة، لم يُعامَل بيليه بجدية كبيرة أبدا منذ مطلع الألفية، وبالتالي، لم يواجه النقد الذي كان ليواجهه أيٌّ من لاعبي اليوم لو كان قد صرَّح بتصريحات مشابهة.

 

هذا التضارب يقودك إلى حقيقة مهمة؛ المشكلة ليست في أننا لم نشاهد بيليه يلعب وحسب، بل في أننا لا نعرفه كذلك، فمَن يريد التعرُّف إلى رجل لعب أول كأس عالم له منذ 63 سنة؟ هناك جبل جليدي ضخم سيظل قائما بين بيليه والأجيال اللاحقة، ببساطة لأنه يُحدِّثهم عن لعبة لا يعرفونها، في زمن ليسوا مهتمين به وصِلتهم به منقطعة، والأهم أن إدراك سياقه صعب للغاية، معتمد بالأساس على روايات الأشخاص وانطباعاتهم الشخصية. إنها دائرة مفرغة كما أخبرناك.

Pele - Brazil celebrates a goal Pic : Action Images

جزء من هذا التشويش يزول عند مشاهدة بيليه في وثائقي “نتفليكس” الصادر مؤخرا باسمه، وبعد عدة دقائق تشعر وكأنك صرت تعرف الرجل أكثر. الحقيقة أن بيليه يبدو رجلا صريحا شديد الاعتداد بنفسه. عندما سُئل مثلا عن زيارته للرئيس إيميليو غارّاستازو مديسي، الدكتاتور السفاح الذي قتل وعذَّب أعدادا لا تُحصى من البرازيليين، وألغى حرية الصحافة والتعبير، قال بيليه إنه لم يتعرَّض لأي ضغوط من أي نوع لإجباره على زيارة الرجل والتقاط الصور معه. (3)

 

هذه نقطة مثيرة للانتباه، لأن تلك الزيارة كانت أبرز ما أُخذ عليه من قِبَل الكثيرين في البرازيل طيلة مسيرته، أن موقفه من انقلاب 1964 كان… في الواقع، بيليه لم يكن له أي موقف من انقلاب 1964 العسكري، بل قال بتعبيره إن “كرة القدم استمرت كما هي ولم تتأثر”، وإنه “كان يسمع الكثير من الأخبار عن وقائع القتل والتعذيب ولكنه لم يكن متأكدا من مدى صحتها”. (4)

 

بالطبع كان بإمكان بيليه القول إنه تعرَّض للتهديد وكان الجميع ليُصدِّقه، داخل البرازيل أو خارجها، بل إن بعض محبيه سبقوه لهذه المعركة بالفعل وساقوا الحجج لتبرير موقفه. أحدهم كان صديقه الصحفي جوكو كفوري، الذي قال في الوثائقي نفسه إن الفارق الوحيد بين موقف محمد علي المُشرِّف من حرب فيتنام، برفضه أداء الخدمة العسكرية آنذاك، وبين موقف بيليه المُخزي من السلطة العسكرية القمعية في بلاده، أن محمد علي كان واثقا من أن أحدا لن يُسيء معاملته أو يُعذِّبه في أميركا، دولة الحريات، بينما كان الوضع مختلفا في البرازيل.

 

99% أساطير.. 1% سياق

22nd December 1971: Pele the famous Brazilian footballer gives the thumbs-up sign during a press conference in Paris, where he is taking part in a match at the Exhibition Park. (Photo by Central Press/Getty Images)

ربما يمنحك هذا فكرة عن جزء بسيط من السياق الاجتماعي والسياسي في زمن بيليه، ولكن الفكرة الأهم في أنه حتى لو كان بيليه أخا للديكتاتور مديسي في الرضاعة، لظل أسطورة في أعين البرازيليين، لسبب لا ينال حقه من الضوء أبدا عندما يتطرَّق الحديث إلى إنجازات البرازيلي.

 

الحقيقة أن كل ما يُتداول الآن عن الكرة البرازيلية وثقافتها وسحرها، واللعبة الجميلة أو “Jugo Bonito”، وكل ما قيل عن أمثال رونالدينيو غاوتشو ورونالدو دي ليما وريفالدو وغيرهم لاحقا، كان أساسه ما صنعه بيليه ورفاقه في 1958، عندما أحرزوا لقب البرازيل الأول لكأس جول ريميه، أو كأس العالم باسمه وشكله القديم.

حين نتحدَّث عن البرازيل قبل عام 1958، فإننا في الحقيقة نتحدَّث عن بلد فقير، غير مُتحضِّر في أغلب مناطقه، ولا يُعامل بجدية من قِبَل زعماء الكوكب، وأهله لا يشعرون أن هناك ما يمكن تقديمه للعالم سوى الحاصلات الزراعية التي تعتمد على المناخ أساسا، والأهم أنهم يشعرون بتشتت شديد وعجز عن تعريف هويتهم، بسبب اختلاط أعراق البرازيليين بين السكان الأصليين للقارة، والسود الذين قدموا من أفريقيا مع الاحتلال البرتغالي، والبرتغاليين البيض أنفسهم.

 

كان هذا هو ما أنتج عقدة دونية جماعية اعتنقها البرازيليون عند مقارنة بلادهم بباقي بلاد العالم، عقدة سُميت بـ”عقدة الهجين” (The Mongrel Complex) طبقا للروائي البرازيلي نيلسون رودريغيز الذي صك المصطلح لأول مرة، و”Mongrel” هو كلب الشارع في العامية الإنجليزية، الذي لا يعلم أصله أو نسله. (5)

 

كان هذا البلد، الذي وصفه شارل ديغول بأنه “بلد غير حقيقي”، وخلط رونالد ريغان بينه وبين بوليفيا، كان ينتظر انتصارا دوليا يُعرِّف هويته للعالم، وأتت تلك اللحظة في نهائي مونديال 1950 في الماراكانا، عندما كان بيليه في التاسعة من عمره، ولكنها انتهت بفوز الأوروغواي 2-1، في واحدة من أقسى لحظات تاريخ البرازيل الحديث كما يصفها كثيرون. (6)

 

لهذا السبب كان فوز البرازيل بمونديال 1958 هو لحظة تعريف هذا البلد. بيليه لم يكن مجرد لاعب كرة موهوب أو حتى الأفضل في جيله، بل كان الرجل الذي كسر العقدة، ومنح البرازيليين شيئا ليفخروا به، وصوتا على المسرح العالمي، لدرجة أنه تحوَّل إلى معنى البرازيل وتعريفها، التي صارت تُسمى في هذه الفترة ببلد بيليه.

 

البجعة السوداء

بالطبع، مرة أخرى، يمكنك أن تستخدم هذا السياق لصالح بيليه وضده في آنٍ واحد؛ ما فعله بيليه يُحسب له قطعا، ولكن هل كان محظوظا بأنه ولد في هذا السياق؟ هل مُنحت عدة مباريات لكرة القدم حجما أكبر من حجمها الفعلي بسبب تأثيرها الاجتماعي؟ بالتأكيد، لا شك، أم ربما العكس؟ هل كان بيليه منحوسا لأنه وُلد في بلد بلا هوية أو تاريخ في اللعبة؟ هل جعل ذلك مهمته أصعب؟ ألم تكن حياته لتصبح أسهل لو كان ألمانيا أو فرنسيا أو إيطاليا؟ ربما، غالبا، هذا منطقي كذلك.

 

السياسية البرازيلية بينيديتا دا سيلفا تقول إن بيليه كان “أكثر صورة ملهمة مُمكنة لولد أسود فقير”. هذا جزء من أسطورة بيليه كذلك؛ أنه أشعر البرازيليين بأن كل شيء صار ممكنا، وأنه لو كان ولد أسود فقير، يقبع في أسفل السلم الاجتماعي آنذاك، قادرا على أن يصبح ثاني أكبر علامة تجارية في أوروبا بعد كوكا كولا، فإن الباقين يستطيعون تحقيق الكثير أيضا. (3)

ربما يمنحك كل ذلك فكرة عن السبب الأصلي لكون بيليه مبالغا فيه (Overrated) بتعبير كوندي؛ الخلط غير الواعي الذي نقع فيه مع المشاهير والمؤثرين والاستثنائيين، الذي يجعلنا نفترض بأن براعتهم في حِرفتهم ستمتد إلى باقي جوانب حياتهم، فنتخيَّل أن لاعب الكرة الاستثنائي هو بالضرورة أب رائع وزوج مخلص وصديق وفي، أو ما يعرفه علم النفس بتأثير الهالة (The Halo Effect)، وهو أمر، لو فكرت فيه، يدفعك للاعتقاد بأن كل المشاهير والمؤثرين والاستثنائيين مبالغ فيهم بدرجة ما، فقط لأننا لا نرى الجوانب العادية أو حتى القبيحة من حياتهم. (7)

 

هذا يخالف الحقيقة في أكثر الحالات، بل في الواقع، يُخبرنا علم النفس كذلك أن النرجسيين أكثر قابلية للنجاح -بتعريفه المادي- من غيرهم، بسبب قدرتهم على فصل مشاعرهم عن المحيطين بهم، واتخاذ القرارات التي تُحقِّق مصالحهم في المقام الأول، بغض النظر عن اعتبارات مثل الصداقة أو أو القيود الأخلاقية المجتمعية وغيرها. بعبارة أخرى، ليس كل الناجحين نرجسيين، ولكن هناك نسبة لا بأس بها منهم كذلك. (8) (9) (10)

 

ربما لم يكن بيليه نرجسيا بالمعنى الحرفي الكريه، ولكن جوناثان ليو، الصحفي والكاتب الإنجليزي البارز، يعتقد أن خلفيته الدينية الكاثوليكية، ونظرته لنفسه، تُنبئ عن شخص يرى نفسه خادم الله على الأرض ومُحقِّق رغباته. شخص “خُلق” لكرة القدم كما يقول بيليه عن نفسه دائما، وهو ما دعاه لنسب العديد من الإنجازات لنفسه دون استحقاق كامل على الأقل. (11)

 

ربما كان هذا ما يجعله يشعر بالمسؤولية طوال الوقت. في الوثائقي ذاته، سُئل عما إذا كان أفضل لاعب في التاريخ يشعر بالتوتر أحيانا مثل باقي اللاعبين، فكانت إجابته: “ليس أحيانا، بل طوال الوقت”. هذا أيضا يُفسِّر تصريحه عن كون أعظم جائزة يحصل عليها المنتصر لا تكون الكأس، بل الشعور بالارتياح والفرج، الارتياح من ثقل المسؤولية فيما يبدو. (3)

 

ظلال كبيرة

على الأرجح، يعتقد جيسون كوندي أن بيليه كان أفضل لاعب في عصره، ولكنه يستدرك قائلا إن ما “يشعر” به -وهو مجرد شعور بالطبع لأنه لم يشاهده يلعب- أن أسطورة الرجل كانت أكبر مما كان عليه الرجل نفسه، وهنا يستخدم عبارة اللورد فاريس الشهيرة من مسلسل “لعبة العروش” عن الرجل الصغير الذي يمكنه أن يصنع لنفسه ظلا كبيرا، فقط لو كان يتحكَّم في مصدر الضوء. (1) (12)

 

إدسون آرانتيس دي ناسيمنتو، أو بيليه، لم يكن رجلا صغيرا قطعا، وهناك درجة من الانحياز العكسي واضحة في نغمة التقليل منه. صحيح أن الرجل لم يُسجِّل 1283 هدفا رسميا كما يدَّعي، وصحيح أن 526 هدفا منها أتت في مباريات ودية غير رسمية ومباريات لعبها في جولات ترويجية لصالح سانتوس، ولكن صحيح أيضا أن إزالة كل تلك الأهداف يجعل حصيلته باهرة وغير مسبوقة في هذا العصر. 757 هدفا رسميا في 812 مباراة ليست حصيلة تدعو للتقليل من صاحبها أبدا، وهي ما زالت متجاوزة حصيلة غيرد مولر، ثاني أعظم هدافي أوروبا رقميا عبر التاريخ، في عدد الأهداف المسجلة لنادٍ واحد.

الأهم أن تلك المباريات لم تكن “ودية” بالمعنى الحرفي، ببساطة لأن الجميع كان يتعامل مع بيليه بوصفه أعظم اختبار ممكن في مسيرته. الجميع كان يرغب في إيقافه وتضييق الخناق عليه حتى لو في مباراة ودية. الجميع كان يعتبر مواجهته فرصة لن تتكرر. (13)

 

في إحدى تلك المباريات أمام إنتر سنة 1963، تطوَّر الأمر لمعركة مفتوحة بالأيدي والأقدام بين لاعبي الفريقين، وفي مباراة أخرى أمام ميلان خرج بيليه مُصابا بعد عدد من التدخُّلات العنيفة، والأهم أن بيليه واجه أبطال أوروبا مرتين في كأس إنتركونتيننتال، معادل كأس العالم للأندية آنذاك، وتمكَّن من تسجيل 5 أهداف في مباراتين في شباك بنفيكا عام 1962، وثنائية أخرى في مباراة الذهاب أمام ميلان في سان سيرو عام 1963، ولم يلعب لقاء العودة في ماراكانا. (13)

 

بالعودة للوديات، سجَّل بيليه 8 أهداف في إنتر، و6 ضد روما، و3 ضد لاتسيو، وهدفين في مرمى كلٍّ من ميلان ويوفنتوس، و6 أهداف في مباراتين ضد فرانكفورت، و4 ضد بنفيكا، وهدفا ضد ريال مدريد، وثلاثية ضد برشلونة. كل هؤلاء كانوا منافسين أوروبيين أقوياء واجههم بيليه في وديات هذه الفترة، وتوهَّج بشدة ضدهم كما كان يفعل في البرازيل، بل إن آدم بيت، محلل سكاي، يقول إن البطولة المحلية البرازيلية في ذلك الوقت كانت الدوري الأقوى في العالم، لأنها ضمَّت نخبة الأندية والمواهب في البلاد، ومن ضمنها نادي بوتافوغو، غريم سانتوس اللدود، الذي كان يضم عباقرة من أمثال غارينشا وجيرزينيو وديدي.

 

معضلة خليل نيمار

المشكلة أن اسم بوتافوغو نفسه يقودك إلى التشكيك في كل ذلك؛ إذ يُظهِر سجل بيليه بعض النتائج المثيرة للدهشة، من ضمنها الفوز عليه بنتيجة 11-0 كان نصيب بيليه منها 8 أهداف كاملة، وعلى ناسيونال بنتيجة 10-0 سجَّل منها 5، بخلاف 5 أهداف غيرها في الفوز على يوفنتوس 10-1. المشكلة أن هذا لم يكن بوتافوغو الأصلي، ولا ناسيونال الأوروغوياني المرعب، ولا يوفنتوس الإيطالي، بل كانت فِرَقا تقف على حافة الاحتراف اتخذت أسماء مماثلة لتزيد من شهرتها. هذا يشبه أن يتعاقد برشلونة مع نيمار، ثم تكتشف أنه خليل نيمار جناح الزمالك السابق، مع الاحترام للجميع طبعا. (2)

 

هذه هي معضلة بيليه الحقيقية؛ هذه الحصيلة من الأهداف تشمل أهدافا رائعة في كأس العالم ضد عتاة الخصوم، وأهدافا أخرى في شباك حسن بوفون وعبد الرحيم ياشين. بيليه سجَّل في الأفضل، ولكنه، كذلك، سجَّل الكثير في الأسوأ على الإطلاق.

Football - 1970 FIFA World Cup - Final - Brazil v Italy - Estadio Azteca, Mexico City - 21 June 1970 Brazil's Pele celebrates after scoring the opening goal Mandatory Credit: Action Images / Sporting Pictures

الأهم أن اعتزازه الشديد بكل هدف، بل وإصراره على احتساب أهداف الوديات، واعتبارها سببا يجعله أفضل من الباقين عبر التاريخ، يُفرِّغ العملية كلها من معناها، وكأنها محاولة يائسة لمراكمة الأرقام وتسديد الخانات فقط لا غير، قائمة بالأساس على كسل الناس أو عدم اكتراثهم بالحقيقة.

 

الحقيقة أن كل شيء يخص بيليه مربك لدرجة مزعجة؛ من اللقطات القليلة المتاحة له تُدرك أنه لاعب متكامل فعلا، يُجيد الرأسيات والتسديد البعيد بالقدمين بدقة متساوية، بالإضافة إلى تسديد الركلات الحرة والمراوغة بكلتا القدمين كذلك، وهو أمر نادر للغاية، وفوق كل ذلك، كان بيليه صاحب رؤية استثنائية فعلا، ويُجيد صناعة اللعب وقراءة تحرُّكات زملائه، وتوقُّعها في الجانب الأعمى من نظره بشكل لا نعتقد أنه كان شائعا في عصره أبدا.

 

بل لا مبالغة في القول إن التركيز على عدد أهدافه قد حرمه من تسليط الضوء على مهاراته في صناعة الفرص، ولهذا السبب يعتقد الكثيرون أنه كان مهاجما صريحا بينما كان بيليه أقرب لصانع ألعاب. في الواقع، كانت رغبة جواو سالدانيا، مدرب المنتخب قبيل مونديال 1970، في إشراكه بمركز المهاجم الصريح، أزمة كبيرة بالنسبة له. (3)

 

المثير للجدل حقا أن بيليه لم يحصل على جائزة أفضل لاعب في أي بطولة من الكؤوس الثلاثة التي حصدها، ولا كان الهداف الأبرز في أيٍّ منها كذلك، وكان هيلينو غارينشا هو مَن قاد السيليساو للفوز بمونديال 1962 بعد إصابة بيليه في دور المجموعات، وهو الرجل الذي يصفه الكاتب البرازيلي ألكسندر بيلوس في كتابه “كرة القدم؛ طريقة العيش البرازيلية” بأنه كان عبقريا، وربما كانت موهبته أكبر من بيليه نفسه، ولكن إدمانه للخمور والجنس، والنهاية المبكرة لمسيرته، حالا دون حصوله على التقدير الذي يستحقه. (2) (14)

 

رجل صغير؟

 

رغم رحلته القصيرة في عالم اللعبة، ظل غارينشا حاضرا في وعي البرازيليين حتى اللحظة. بيلوس يقول في الكتاب نفسه إن شعبيته قد تفوق شعبية بيليه، ويُعَدُّ ذلك أحد أهم أسباب رغبة بيليه في الحصول على قدر أكبر بكثير من الشهرة والنجومية، قدر سمح له بأن يتجاهل غارينشا كليا عندما وضع قائمة بأفضل زملائه من وجهة نظره.

 

بيليه لم يكن أكثر ذكاء من غارينشا فيما يخص حياته الشخصية وحسب، بل كان أكثر وعيا بقدرته على تسويق ذاته كذلك. الجناح البرازيلي الأعسر العبقري كان نادرا ما يظهر في الإعلام أو يُطلق التصريحات أو يُجري المقابلات، بينما كان بيليه يفعل كل ما في وسعه لمراكمة أكبر قدر ممكن من المال والشهرة في زمنه. (11)

بيليه وغارينشابيليه وغارينشا

عقود رعاية ضخمة وكثيرة لدرجة أنه كان يسافر يوميا لتسجيل الإعلانات، وكان كل ذلك يتم في وسط جدول مزدحم بالجولات الترويجية حول العالم طوال الصيف، لدرجة أن سانتوس كان يلعب مباراة كل يومين تقريبا، وفي إحدى السنوات لعب بيليه 100 مباراة.

 

إن كنت تسأل عن السبب في كون بيليه لم يحصل على كوبا أميركا أبدا، أو في كونه لم يستطع الفوز بكوبا ليبرتادورس سوى مرتين في بداية مسيرته مع سانتوس، فهذا هو؛ إذ بعد فترة، أيقن مسؤولو سانتوس أن بيليه أصبح كنزا قوميا، وأن هذه الجولات الترويجية في أوروبا وأميركا الشمالية تجلب الكثير من المال على عكس بطولات كوبا أميركا وكوبا ليبرتادورس، ومن ناحيته، كان بيليه واعيا بهذا الجانب من اللعبة لدرجة غير مسبوقة وغير متوقَّعة بالنسبة للاعب في هذا العصر، لدرجة أنه رفض التفاوض مع سانتوس على راتب ثابت، وطلب الحصول على نصف قيمة العقود الترويجية التي يحصل عليها النادي. (11)

 

كانت قصة الطفل الأسود الفقير الذي ساد عالم كرة القدم هي القصة الأكثر مبيعا في هذا الزمن، لأنها صدمت العالم ومنحته متنفسا جديدا من آخر مكان يتوقَّعه. في زيارته للسويد التي نظَّمت مونديال 1958، يحكي بيليه أن الأطفال البيض كانوا يمسحون أيديهم على وجهه ظنًّا منهم أن بشرته مصبوغة، ببساطة لأنهم لم يروا إنسانا أسود من قبل. قصة عسيرة التصديق لو لم تكن اللقطات الأرشيفية تؤكدها.

 

المشكلة أن بيليه باع هذه القصة أكثر من اللازم، وكان تسويقه لذاته شديد الفجاجة، ومع الوقت، انهار الخيط الفاصل بين الحقيقة والدعاية الفجّة، فتحوَّل الرجل إلى ظاهرة تسويقية تستحق الدراسة، أشبه بشطائر البرغر التي يغرقها الجبن من كل الجوانب؛ تبدو مُشهية، ولكنها غير عملية، وليست قابلة للأكل، وعسيرة الهضم.

 

نعم، ربما تكون المفارقة الأغرب في قصة إدسون آرانتيس دي ناسيمنتو أن الكثير من موجات التقليل من تاريخه لم تكن منطقية، ولا موضوعية، ولا مبنية على علم حقيقي بحقبة الرجل وسياقها، ولكن المفارقة الأغرب منها أن أحدا لم يتمكَّن من التسفيه من عظمة بيليه مثل بيليه نفسه، وأن غروره وهوسه بذاته كان هو ما منح هذه الموجات أهم أسلحتها.

—————————————————————————————-

المصادر

  1. جيسون كوندي على TalkSport: “بيليه مبالغ في تقديره.. ليس قريبا حتى من ميسي ورونالدو!” – Talk Sport
  2. 5 حقائق لا يريدك بيليه أن تعرفها – Bleacher Report3-
  3. وثائقي بيليه – Netflix
  4. كيف باع بيليه ضميره – The Nation
  5. ما بعد الكارثة – The Atlantic
  6. لو كانت البرازيل ترغب في إثارة خوف العالم فلقد نجحت – The New York Times
  7. تأثير هالو – Psychology Today
  8. النرجسية – Psychology Today
  9. الصفات الشخصية الثلاثة عشر للنرجسيين – Psychology Today
  10.  لماذا يجعل النرجسيون الحياة صعبة على مَن حولهم؟ – Psychology Today
  11. لماذا يعد بيليه مبالغا في تقديره؟ – The Insider
  12. مقولة لورد فاريس – Goodreads
  13. بيليه في عمر الثمانين؛ تفنيد الخرافات الشائعة عن البرازيلي العظيم – Sky Sports
  14. كتاب ألكسندر بيلوس: كرة القدم؛ الطريقة البرازيلية في العيش – Amazon
المصدر : الجزيرة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى