مقالات

إمام محمد إمام يكتب : التاج علام عُمدة سودانيي لندن.. مضى إلى مليكٍ مقتدرٍ

بحصافة

التاج علام عُمدة سودانيي لندن.. مضى إلى مليكٍ مقتدرٍ

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com

غيب الموتُ، الذي مُدركنا أينما كنا، إذ لا فِرارَ ولامناصَ لنا منه، ولا نجد منه مهرباً، فهو القضاء المبرم (الموت)، سواء أدركنا بُغتةً (موت الفُجاءة) أو بقضاءٍ مؤجلٍ (المرض). فكل نفسٍ ذائقة الموت، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”. فقد ذاقه بالأمس القريب (الأحد 8 أغسطس (آب) 2021) بلندن، منسلاً من دنيا الفناء، ماضياً إلى دنيا البقاء، الأخ الصديق التاج محمد حسن علام، عُمدة سودانيي لندن المتفق عليه منهم جميعاً. كان جامعاً لهم في مكتبٍه بشارع إدجوار رود (شارع العرب اللندني) ، قلب لندن النابض، حيويةً وحركةً، آناء الليل وأطراف النهار، في ذاكم المبنى العتيق، الذي تضيق مساحته على جمعهم، ولكن يتسع قلب صاحبه لهم، موقراً كبيرهم، وحانياً على صغيرهم. فيُصبح ذاكم المكتب اللندني داراً يجمعهم في مجالس مؤانسةٍ، وجِلسات مُدارسة، يتذاكرون فيه هموم الوطن، ويتجادلون بداخله ضيوفه من ساسة الخرطوم، ومعارضي المنافي، ويتسامرون عنده حول ذكرياتٍ خوالدَ لكثيرٍ منهم!
فالموتُ، بحقٍ وحقيقةٍ يُدركنا مهما نسأ الله تعالى في أعمارنا، وَسَلَّم البدن من العلل والمؤجلات، تأكيداً لقول الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سلمى:
كلّ ابن أُنثَى وإن طالتْ سلامتُه
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فإذا حملت إلى القبورِ جنازةٍ
فاعلم بأنّك بعدها محمولُ
ترعرع الراحل التاج علام في صباه الباكر في مدينة أم روابه، إذ عمل والده محمد حسن علام هناك، فكثيراً ما كان يتذكر فيها مراتع الصبا، ويروي عنها ذكريات الشباب. وكان والده مدير مديرية الخرطوم في سنوات الاستقلال الأولى، وخاله معلم الأجيال الأستاذ الراحل نصر الحاج علي من الرعيل الأُوَل من المعلمين، وأول مدير لجامعة الخرطوم بعد السودنة. وله ابنان مقيمان في لندن.
تخرج الأخ الراحل التاج علام في كلية القانون بجامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي، كان يُفاخر ويُباهي في مجالس أُنسه، وجِلسات مؤانسته، بأنه من تلاميذ الشيخ الدكتور حسن بن عبد الله بن دفع الله بن محمد بن مساعد بن النعيم بن حمد النحلان، الذي شُهر عند الناس أجمعين بالترابي – عميد كلية القانون يومذاك – تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات -، ومن المقربين إليه.
عمل التاج علام، بعد تخرجه في ديوان النائب، ومن ثم في وزارة الأشغال العامة في عهد وزيرها اللواء مصطفى جيش، وعمل كذلك في هيئة الموانئ البحرية، وعمل ملحقاً تجارياً في السفارة السودانية لدى المملكة المتحدة وإيرلندا، ثم عرج إلى العمل في القطاع الخاص، فكان من أوائل الملتحقين ببنك فيصل الإسلامي، وتدرج في وظائفه إلى أن صار مقرراً لمجلس إدارة ذاكم البنك، وكان مقرباً من الأمير الراحل محمد الفيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن محمد بن سعود رئيس مجلس إدارة بنك فيصل الإسلامي في السودان، وعاد إلى بريطانيا في سبعينات القرن الماضي، وأقام فيها ما أقام عسيب!
وكان الراحل التاج علام يتذاكر معنا، حكايات وطرائف، حدثت له مع اللواء مصطفى جيش في وزارة الأشغال العامة، وأحاديث في بورتسودان وهيئة الموانئ البحرية! ويفرد لبنك فيصل الإسلامي، زمناً مقدراً ليروي لنا أحداث وأحاديث عن الراحلين الخاتم الشريف وَعَبَد الرحيم حمدي وموسى ضِرار وأبشر أحمد وآخرين – يرحمهم الله تعالى جميعاً – ويستوقفنا في تلكم الذكريات، حديثه عن صديقنا صلاح أبشر أحمد رجل الأعمال الذي يتردد إلى لندن كثيراً، فتجدني في حضور صلاح أبشر أُحرض التاج علام على الحديث عن زيارات صلاح أبشر برفقة والده صاحب مقر رئاسة بنك فيصل الإسلامي في شارع الجمهورية بالخرطوم، قبل رحيل البنك إلى مبناه الحالي في الفيحاء، ومن ثم غارات صلاح أبشر عليهم طلباً للإيجار وزيادته! فيلاججه صلاح أبشر في ذاكم الأمر، بحجة أن الذي كان يُرافِق والده إلى البنك كعضو مجلس إدارة أخوه الأصغر وليس هو، ولكن التاج يسترسل في حكاياته، غير آبهٍ بحِجاج صلاح أبشر، ونحن نُسر ونضحك على تلكم المجادلات الفكِهة!
عرفتُ الأخ التاج علام منذ أمدٍ بعيد، ولكن لم أكن من أوائل مُرتادي مكتبه، إلا بعد أن شجعني على ذلكم الأخ الصديق محمود عبد الرحيم أحمد رجل الأعمال الذي كان وما زال يتردد كثيراً على لندن. وبالفعل لحقتُ بركب ذاكم المكتب، وصِرتُ من أعلامه ودعاته، ولم يكن ذاكم المكتب العتيق يبعد كثيراً عن مقر عملي بصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية في وسط لندن وقتئذٍ. وشجعتُ بدوري عدداً من صحافيي وإعلاميي لندن على ارتياده، وكذلكم دعوتُ بعض أصدقائي الذين يأتون من الخرطوم إلى زيارته، من بينهم كان الأخ الصديق البروفسور مأمون محمد علي حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم آنئذٍ، وهو على معرفةٍ وثيقةٍ بالأخ التاج علام، وتحلقنا يومذاك حوله، ليحدثنا عن الطب والطبابة في السودان، وحدثنا حديث النطاسي البارع، والعالم العارف، بأدواء الصحة في السودان ودوائها.
تميز الأخ الراحل التاج علام – يرحمه الله – بخصائل عِدةٍ، وبفضائل عديدةٍ، منها أنه دائماً وأبداً يستقبل مُرتادي مكتبه العامر بمحبيه وزائريه، فرحاً جذلاً، فيعاملهم معاملة حسنة، فكأني به يُنزل في معاملتهم تلكم، مفهوم الدين المعاملة ، فإنّ جملة “الدّين المعاملة” ليست حديثاً نبوياً، وإنّما عبارة يتداولها النّاس على ألسنتهم، وذكر ذلكم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – يرحمه الله – في مقدمة المجلد الخامس من سلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة، حيثُ أكّد على أنّ هذه العبارة ليست واردة في السّنّة النّبويّة، ومع أنّ هذه العبارة ليست حديثاً نبوياً، لكنّ معناها صحيح، وحثت على ذلك أفعال الرّسول الكريم وأقواله، فالدّين الإسلاميّ لا يقتصر على العبادات الظّاهرة كالصّلاة والصّيام والزكاة والحجّ ونحوه، وإنّما يكون الدّين في المعاملة الطّيّبة والسّلوك القويم. فكان الفقيد التاج علام تعامله معهم جميعاً، حيثُ الكبير محترماً، والصغير موقراً، وبعيداً عن الألقاب والدرجات، ولا تفريق في المعاملة والمُضايفة بين الوزير والخفير، فكلاهما عنده سِيان. يُسارع إلى إكرام مرتادي مكتبه وزائريه، بتقديم واجب الضيافة من شايٍ وقهوةٍ، ولزوم ما يلزمهما من بلحٍ وبسكويتٍ، وحلوى شامية، ينسى معها، ولو لبعض حينٍ، بعض مرضى السُّكري، قيودهم ونصائح أطبائهم!
ومن الغريب في أمر فقيدنا الأخ التاج علام، أنه يستقبل في مكتبه ذاكم، السودانيين باختلاف مشاربهم الفكرية، وتباين انتماءاتهم الحزبية، فالسوادنة كما يقول العُربان، ما أن اجتمعوا، وإلا كانت السياسة حاضرة بينهم، فالتاج مع ضيوفه من الحكومة، تحسبه إنقاذي – قلباً وقالباً – وتراه مع ضيوفه من المعارضة، تظنه – وليس كل الظن إثماً – من المعارضين الأشاوس يومذاك! فلذلك مجالس أُنسه لا تنقضي عجائبه، وجِلسات مؤانسته لا تنتهي غرائبها!
ويحضرني هنا في هذا الموقف الحزائني في مُصابنا الجلل، الأخ الراحل التاج علام، قول الشاعر العُماني عبد الله بن علي الخليلي:
سلوا نكبات الدهر هل بتن ليلة
على ترة إلا وأصبحن طلقّا
أعزريل ما أبقيت بعد محمد
لموهبة تبقى وشعواء تتقى
هو الدهر لا يبقي مقيماً على الوفا
ولا غادرا بحتاً ولا متملقا
وقول الأخ الصديق الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم:
يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي
كل سمح النفس بسام العشيات الوفي
الحليم العف كالأنسام روحا وسجايا
أريحي الوجه والكف إفتراراً وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي
بضمير ككتاب الله طاهر
انشبي الاظفار في أكتافه واختطفي
وأمان الله منا يا منايا
كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر .. شرّفي
تجدينا مثلا في الناس سائر
نقهر الموت حياة ومصائر
هذه اجنابنا مكشوفة فليرم رامي
هذه أكبادنا لكها وزغرد يا حقود
هذه أضلاعنا مثلومة وهي دوامي
وعلى النطع الرؤوس
فاستبدي يا فؤوس
وادخلي أبياتنا واحتطبي
وأديري يا منايانا كؤوسا في كؤوس
من دمانا واشربي
ما الذي اقسى من الموت؟ فهذا قد كشفنا سره
واستسغنا مره
صدئت آلاته فينا ولا زلنا نعافر
ما جزعنا ان تشهانا ولم يرض الرحيل
فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل
آخر العمر قصيراً ام طويل
كفن من طرف السوق وشبر في المقابر
ما علينا
ان يكن حزنا فللحزن ذبالات مضيئة
أو يكن قصدا بلا معنى ،
فللمرء ذهابا بعد جيئة
أو يكن خيفة مجهول
فللخوف وقاء ودريئة
من يقين ومشيئة
فهلمي يا منايانا جحافل
تجدينا لك أنداد المحافل
القرى منا وفينا لك والديوان حافل
ولنا صبر على المكروه- ان دام- جميل
هذه أعمالنا مرقومة بالنور في ظهر مطايا
عبرت دنيا لأخرى تستبق
نفذ الرمل على أعمارنا إلا بقايا
تنتهي عمرا فعمرا وهي ند يحترق
ما انحنت قاماتنا من حمل أثقال الرزايا
فلنا في حلك الأهوال مسرى وطرق
فإذا جاء الردى كشر وجها مكفهرا
عارضا فينا بسيف دموي ودرق
ومغيرا!
أخلص في هذه العُجالة الرثائية، إلى أن الأخ الراحل التاج محمد حسن علام، كان مكتبه قِبلة الزائرين، ومكان تلاقي المرتادين، من مكتبه، تعلم قدوم الراحلين دفع الله الحاج يُوسُف وخلف الله الرشيد ومحمد يُوسُف محمد وَعَبَد الوهاب عثمان والبروفسور عمر محمد بليل والبروفسور صديق أحمد إسماعيل واللواء الفاتح بشارة والصادق الشامي والدكتور يحي عبد الرحيم أحمد والدكتور منصور خالد، ولقاءات السيد الصادق المهدي – يرحمهم الله جميعاً – إلى لندن، كما من المكتب نفسه، تعلم علم اليقين بمقدم البروفسور مأمون حُميدة والبروفسور عثمان محمود حسنين والدكتور أحمد حسب الرسول واللواء مصباح الصادق والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل والدكتور علي الحاج محمد وأنيس حجار وطه علي البشير وأشرف سيد أحمد (الكردينال) وجمال الوالي، وصلاح أبشر ومحمود عبد الرحيم والرشيد وشقيقه محمود محمد الأمين حامد وأمين عبد اللطيف وغيرهم كُثُر – نسأ الله تعالى في أعمارهم -.
ألا رحم الله تعالى الأخ التاج محمد حسن علام، رحمةً واسعةً، ومغفرةً من لدن مليكٍ مقتدرٍ، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، وألهم آله وذويه وأهليه، وأصدقاءه وعارفي فضله، الصبر الجميل.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسَيْن المعروف بالمتنبي:
وما الموْتُ إلاّ سارِقٌ دَقّ شَخْصُهُ
يَصولُ بلا كَفٍّ ويَسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر فوق هذا وذاك، في هذا الموقف الصعيب الأليم، قول الله تعالى:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى