مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (6 من 10): ثورة في الصناعة وولادة لعصرٍ جديد

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (6 من 10): ثورة في الصناعة وولادة لعصرٍ جديد

 

لم يعد علم النانو حبيس المختبرات أو أوراق البحث الأكاديمي، بل غدا أحد الأعمدة الأساسية لثورةٍ صناعيةٍ جديدة تتجاوز في عمقها كثيرًا مما عرفه العالم منذ الثورة الصناعية الأولى. فالنانو اليوم لا يضيف إلى الصناعة أدواتٍ أكثر دقة فحسب، بل يُعيد تعريف الصناعة ذاتها؛ من حيث المواد، والطاقة، والتكلفة، والكفاءة، والاستدامة.

في الماضي، قامت الصناعة على مبدأٍ كلاسيكي بسيط: «كلما كبر الحجم، زادت القوة والإنتاج». أما اليوم، فقد أثبت علم النانو أن التفوق قد يكمن في الصغر، وأن التحكم في البنية الذرّية للمادة هو مفتاح القفزات النوعية. فبدلًا من تكديس الحديد والنحاس والبلاستيك في مصانع ضخمة، أصبح بالإمكان تصنيع موادّ أخف وزنًا، وأعلى متانة، وأطول عمرًا، عبر ضبط تركيبها على مستوى النانومتر، حيث تتغيّر الخصائص الفيزيائية والكيميائية، ويولد الإبداع من قلب الصغر.

وقد دخلت المواد النانوية في معظم الميادين الصناعية الحديثة: من الإلكترونيات الدقيقة إلى الطيران، ومن الزجاج إلى المنسوجات، ومن الدهانات إلى الأجهزة الطبية. فأصبحت بعض أنواع الفولاذ المعالج نانويًا تجمع بين خفة الوزن وارتفاع الصلابة بفوارق كبيرة قد تبلغ أضعافًا متعددة في بعض التطبيقات، وظهرت إطارات سياراتٍ محسّنة نانويًا أكثر مقاومةً للتآكل والحرارة، ودهاناتٍ نانوية تقاوم الصدأ والأوساخ والماء، إلى جانب تقنيات نانوية تُحسّن كفاءة الوقود وعمليات الاحتراق وتقلّل الانبعاثات الضارّة.

وفي عالم الإلكترونيات، فتح النانو الباب أمام أجيالٍ متسارعة من الرقائق والمعالجات فائقة الصغر، التي تضاعفت قدراتها الحسابية مع انخفاض استهلاكها للطاقة، حتى باتت الأجهزة الحديثة أقوى بكثير مما كانت عليه قبل عقود، وأقل استنزافًا للموارد. أما في صناعات الطيران والفضاء، فقد أتاح النانو موادّ تجمع بين الصلابة والمرونة، مكّنت من تصميم هياكل أخف وزنًا، وأكثر تحمّلًا، وأعلى كفاءة في استهلاك الوقود والأداء.

ولم تقف تطبيقات النانو عند حدود الصناعة المادية، بل امتدت إلى المجال البيئي؛ حيث تُستخدم المواد النانوية اليوم في تنقية الهواء والمياه، وإزالة الملوّثات، وتحليل السموم الكيميائية، عبر جسيماتٍ دقيقة ذات قدرة عالية على الامتصاص أو التفكيك. وهكذا تتلاقى الكفاءة الاقتصادية مع المسؤولية البيئية، لتؤكد أن التقنية حين تُبنى على فهمٍ عميق للعلم يمكن أن تكون أداةً للحماية لا للاستنزاف.

إن هذه الثورة النانوية تُعيد التذكير بأن التقدم الحقيقي لا يقوم على زيادة الإنتاج وحدها، بل على إعادة التفكير في المادة نفسها. فالصناعة الحديثة لم تعد تُبنى من أعلى إلى أسفل كما في السابق، بل من أسفل إلى أعلى: من الذرّة إلى المنتج، عبر تصميم واعٍ للبنية قبل الشكل، وللخصائص قبل الكميات.

وإذا تأملنا هذا التحول وجدنا فيه صورةً من السنّة الكونية في البناء والإصلاح؛ إذ يقول الله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾
أي جعلكم عُمّارها، تطوّرونها وفق قوانينها وسننها. والعلم حين يبلغ مرحلة تمكّن الإنسان من ضبط خصائص المادة في أدق مستوياتها، فإنه يقترب من بعض وجوه عمران الأرض: لا للإفساد، بل للإتقان، ولا للتخريب، بل للإصلاح.
وفي السودان، يمكن لعلم النانو أن يفتح أفقًا جديدًا للصناعة الوطنية إذا توفرت الرؤية والجرأة المؤسسية. فالصناعات المعدنية والبلاستيكية والنسيجية والغذائية يمكن أن تشهد

نقلات نوعية عبر إدماج التقنيات النانوية، بما يتيح إنتاج مواد أخف، وأمتن، وأكثر كفاءة، وقابلة للمنافسة عالميًا، دون الارتهان إلى مصانع عملاقة أو رؤوس أموال ضخمة. فبمختبراتٍ محدودة الحجم، وعقولٍ مدرَّبة، يمكن تأسيس اقتصادٍ صناعيٍّ جديد يقوم على المعرفة لا التقليد، وعلى الابتكار لا الاستيراد.

إن النانو في الصناعة ليس مجرد تقنية إضافية، بل ثقافة جديدة في التفكير والإنتاج؛ ثقافة الإتقان والدقة والتجريب المستمر، حيث لا يُكتفى بالموجود، بل يُعاد تكوين الأشياء على نحوٍ أذكى. فكل ذرةٍ تحمل إمكانية إعادة تعريف خصائصها، وكل أمةٍ تمتلك القدرة على إعادة تعريف موقعها إذا امتلكت العلم والإرادة.
وما أعظمها من لحظة حين تلتقي الذرّة بالصناعة، والعلم بالإرادة، فتولد النهضة من رحم الصغر. إنها الولادة الحقيقية لعصرٍ جديد، يكون فيه الإتقان معيار القوة، والعلم رأس المال، والحرية الفكرية هي المصنع الأكبر.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى