مقالات

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..حين ينهض المنصب ككائنٍ أسطوري… ويبتلع صاحبه

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: .. ترانيم الظلم..حين ينهض المنصب ككائنٍ أسطوري… ويبتلع صاحبه

 

 

يقول كبار الحكماء:
“ليس في الدنيا من يستقيل…
بل هناك من يتحرّر من مخلوقٍ كان يظنه منصبًا.”

وهكذا تبدأ الأسطورة.

في فجرٍ يشبه الحكايات الأولى،
حين كانت الأرض تُحكم بالرموز لا بالقوانين،
نهض رجلٌ من بين الأنقاض لا يبحث عن كرسي،
بل عن نفسه التي ضاعت في خريطة السلطة.

لم يكن يعلم أن المنصب الذي جلس عليه
ليس مقعدًا من خشب،
ولا مرتبة من ورق،
بل كان مخلوقًا أسطوريًا
ذا وجهٍ من الضوء
وظهرٍ من الظلام،
يحمل أعينًا كثيرة لا تنام
وأفواهًا لا تشبع.

كل من يجلس عليه،
تلتفّ حول قدميه جذور خفية،
وتسقيه خزائن لا يقرأها إلا الباطن،
ويتحدث إليه ذهبٌ لا يفهم لغته الشعب.

لكن الرجل هذه المرّة
كان مختلفًا.

فلما جلس،
لم يسمع همس السلطة كما يسمعه الآخرون،
بل سمع شيئًا آخر…
سماع الأرض وهي تشكو.

سمع باطنها يقول:

“خذوا ذهبنا…
لكن لا تأخذوا ضوءنا.”

وسمع خزائنها تقول:

“من أغلقنا ليلًا…
ظنّ أن الناس لن يروا النهار.”

وسمع أصواتًا قديمة
خرجت من ظلال الماضي
تتمدد حول الدولة كما تتمدد الحيّات حول شجرة الخلود.

عندها أدرك الرجل الحقيقة:

المنصب ليس كرسيًا…
بل وحشٌ يتغذّى على الصمت.
وكلما حاول أن يقوده،
حاول الوحش أن يبتلعه.

وفي ليلة اكتمال القمر،
ظهر له المخلوق بكل هيبته.

جسدٌ من قرارات،
أجنحة من أوراق رسمية،
عيون من لجان،
وأنفاسٌ من غبار خزائن قديمة.

قال له الوحش بصوت يشبه زئير العصور:

“أطعني…
أُبقِك حيًا.”

لكن الرجل ابتسم
ابتسامة من فهم فلسفة السلطة:

“الحياة ليست أن أبقى فوقك…
الحياة أن لا أبقى لك.”

قام من على الكرسي،
فاهتزّ الوحش.
ارتجّت وزارة.
انفلتت جداول.
انكشفت خزائن.
وتحركت ظلالٌ كانت نائمة منذ زمن.

اقترب من الورقة،
وكتب لا بيده…
بل بظلّه:

“أترك هذا الوحش لمن يجيد ترويض الظلال…
أما أنا فعدتُ إنسانًا.”

ثم رفع يده،
فضرب الضوء رأس الوحش،
وتراجع المنصب إلى حجمه الحقيقي:
مجرد مقعد،
كان يكبر فقط حين يجلس عليه الصغار.

خرج الرجل من القصر.
لم يخرج كمسؤول،
بل كـ بطل أسطورة
استعاد اسمه من بين أنياب السلطة.

وفي الصباح،
قال الناس:

“لم يستقل…
لقد انتصر.”

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى