محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر.. قرارات الطوارئ الاقتصادية: صيحة في الصحراء لا تؤتي نتيجة !!!

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:.. بهدوء و تدبر.. قرارات الطوارئ الاقتصادية: صيحة في الصحراء لا تؤتي نتيجة !!!
رفض واسع عنيف لقيته قرارات لجنة الطوارئ الاقتصادية برئاسة رئيس الوزراء وقالت إنها قرارات نوعية لضبط الأداء الاقتصادي وحماية العملة الوطنية ، وأنها خطوة استراتيجية لإصلاح الاقتصاد الوطني وحماية العملة الوطنية . لكن الحق أنها ليست استراتيجية ، إنما هي تكرار مألوف لما تعلن عنه الحكومات عند كل موجة هبوط للعملة ، حتى إذا اشتدت الأزمة عادت بذات الصيحات بصياغات مختلفة ومضمون واحد سرعان ما تنطفئ آثارها لتتجدد موجات الانهيار.
وانشغلت الحكومة – شأنها شأن الحكومات السابقة – بموجات انخفاض العملة الوطنية ، تترقب أعراض المرض وآثاره الظاهرة ، وتغفل عن أصل الدواء ومنبع الوباء .
فهذه القرارات في حقيقتها ليست إلا صيحة في صحراء قاحلة وبيئة فاسدة لن تفجر ماءً ولن تجلب طعاماً وهي :
1/ تشكيل لجنة للطوارئ الاقتصادية برئاسة رئيس الوزراء لا يختلف كثيراً عما سبقه من هياكل مؤقتة وكيانات ارتجالية لا تعدو أن تكون مجرد توهّم لحلول ظرفية لا تعالج حتى شقوق السطح ، بل تفاقم أصل الداء وتزيده تعقيداً ، وكان الأجدى تشكيل مجلس أعلى لإصلاح بيئة الدولة جذرياً ، يضع حلولاً كلية تعالج جذور الخلل .
2/ منع استيراد البضائع إلا بضوابط مصرفية وتجارية ، فهذا رهين بماهية هذه الضوابط ومدى صلاحها أو عدم ملاءمتها . أما حظر دخول غير المستوفي للمواصفات، فهو من البدهيات التي ينبغي أن تكون مطبقة بحكم القانون ، دون أن تُساق في إطار طوارئ أو استثناء ، إذ إن إخضاع السلع للمواصفات والضوابط من المسلمات لا من متطلبات الطوارئ .
وفي السياق نفسه ، فإن ربط الواردات بتخصيص مبالغ الصادرات لا يؤدي إلا إلى مزيد من التباطؤ في انسياب السلع وضعف وفرتها ، وربما انعدام بعضها مما يفتح الباب واسعًا لاحتكار القلة ولتهريب السلع – خشناً أو ناعماً – عبر المنافذ الرسمية بحيل معروفة . والأخطر أن هذا النظام يخلق منفذاً ضخماً للفساد ، إذ يمنح المسؤولين سلطة تحكم غير نزيهة في توجيه الموارد لهذه السلعة أو تلك ، أو لهذا الشخص دون ذاك تبعاً للأهواء والصفقات الخفية .
3/ تفعيل دور قوات مكافحة التهريب قرار لا معنى له ، أليست هذه هي المهام الأساسية لهذه القوات وإلا فلماذا أنشئت أصلا . والتهريب لم يتوقف يوماً بالقبضة الأمنية وحدها .
وقد لوحت اللجنة بآلية “المتابعة الدقيقة” دون ان تقول ماهي وكيف هي . وأيّاً كانت، فإنها لن تجدي في ظل اقتصاد مقيد قائم على الأوامر والتصديقات.
6/5/4/ تشديد العقوبات على حيازة الذهب ومتابعته حتى التصدير والتهديد والوعيد بمصادرة كل من يحتفظ لديه بشيء من الذهب ، فليس هذا من الرشد والحكمة إذ
من طبيعة الحياة أن يظل البعض محتفظاً بشيء من هذا الذهب ، سواء بغرض حفظ القيمة في أوانٍ ما لحين ترتيب أمره لشراء عقار أو الدخول في تجارة أو ادخار مال قُصر أو ضعفاء ، أو نحو ذلك . وما صدر من وعيد يقضي على سُنّة طبيعية ، ويزيد مشهد الحياة توتراً وتعقيداً .
أما القرار الأخطر بحصر شراء وتسويق الذهب في جهة حكومية واحدة ، فليس سوى وصفة فاشلة تُكرّس الاحتكار وتؤطر للفساد .
فحتى إذا جرى تحديد سعر جرام الذهب يومياً وفق البورصة العالمية (وهو ما لا يُعلن حالياً عبر منصة شفافة)، يبقى السؤال: كيف يُدفع المقابل بالعملة الوطنية للمنتجين والمصدرين ، وبأي معيار ؟ هل بسعر البنك الرسمي (الوهمي) مع الفارق الهائل عن السوق الموازي (الحقيقي) ؟ ذلك مستحيل ، وإلا توقفت عجلة النشاط الاقتصادي كلياً.
والواقع اليوم أن المنتج أو المالك أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يُصدر ذهبه بنفسه ، لكنه يُجبر على توريد حصيلة الصادر مقدماً للبنك ، أي عملياً شراء عملة أجنبية (دولار من السوق الموازي) وإيداعها، ثم الدخول في مساومة طويلة مع مستورد يسعى للبحث عنه وبيعها له بخسارة قد تبلغ 15% عن السعر الحقيقي، فوق خسارة فارق العملة المبدئية. وإلا فعليه بيع الحصيلة للبنك بالسعر الرسمي بخسائر فادحة.
وإما أن يبيع ذهبه لجهة مصدّرة واقعياً هي جهة واحدة محصورة ، فتشتري منه بالعملة الوطنية وفق سعر السوق الموازي مع خصم إضافي يقارب 4% عن السعر العالمي ، ولا خيار آخر أمامه .
هذه الوضعية المربكة غير الشفافة تجعل المنتجين يعزفون عن التصدير الحر ، ويفضلون البيع لتلك الجهة ، في بيئة ملتبسة تتبدل ضوابطها دون معيار ثابت ، وهو ما يشيع مناخاً معكراً يعزز التهريب ويقوض الثقة.
7/ إنشاء منصة قومية رقمية لمتابعة الواردات
والصادرات يبدو واعداً من حيث الشكل ، لكنه يظل عديم الجدوى إذا لم يكن جزءاً من منظومة رقمية متكاملة تشمل المصارف والجمارك والضرائب والبنك المركزي والموانئ.
8/ 9/ القراران الثامن والتاسع بتنظيم استيراد السيارات وضبط عمليات الاستيراد غير المقنن “عبر الطبالي” في الموانىء والمعابر ومراجعة الجبايات غير القانونية هما قراران إجرائيان جزئيان وهما من البدهيات التي ينبغي أن تكون مطبقة أصلا بموجب القانون .
10/ مراجعة سياسات الصادر ، وإزالة كافة العقبات التي تعيق زيادة الصادرات وضمان انسيابها هو في حقيقته مجرد حديث فضفاض حيث لا إشارة لهذه العقبات
وكيفية إزالتها لتتحقق الزيادة المأمولة في الصادرات .
وهكذا تبقى الصادرات راكدة والجنيه يتهاوى، في انتظار موجة جديدة تعقبها قرارات جديدة.
الخطوات الصحيحة للحل الجذري لمعضلة اقتصاد السودان غير ممكنة إلا بقرارات جذرية واضحة ، لا ترقيعية ولا تجميلية . مما ينهي هذه الأحجية والهاجس الذي يشغل الناس إلى الأبد . وما عدا ذلك ليس سوى إطالة لأمد الأزمة وإهدار لفرص النجاة .
الطريق واضح لحل مشكلة اقتصاد السودان حيث أن الحل لا يمكن أن يكون جزئياً يغفل أساس المشكلة ويشمل :
تهيئة البيئة العامة التي لا يمكن تحقيق إصلاح أو تحقيق نهضة بدونها والتي لا يمكن أن تتهيأ في ظل اقتصاد يرسف في قيود ثقيلة ودولة تكبل أداءها نظم تخطاها الزمن ولم تعد صالحة في بيئة الاقتصاد العالمي .
وأول ابواب الحل هو تحرير الاقتصاد تحريراً حقيقياً كاملاً دون مواربة بتحرير الاستثمار والتجارة بأن يُلغى فوراً كل قيد على التجارة الداخلية والخارجية، وتُفتح أبواب الاستيراد والتصدير بلا جبايات ولا تصاديق
معطلة، الأمر الذي يسمح بتدفق الاستثمارات ودخول المستثمرين الكبار من الداخل ومن الخارج ، وإنشاء المشروعات العملاقة اللازمة في البنيات التحتية وفي استغلال ثرواتنا ومواردنا الهائلة .
ويجب أن يصحبه نظام رقمي لضبط أداء الدولة يشمل كل مرافقها ، وأن يكون شاملاً لا جزئياً في بعض المفاصل ، حيث أنه يكون مشلولاً إذا لم يشمل كل مؤسسات الدولة ومرافقها مما يمكن من إنفاذ القانون عبر النظام الرقمي لا عبر الأفراد.
وهذا يربط المواطنين بمنصة هوية وطنية موحدة ويحوّل القضاء والضرائب والجمارك وكل الخدمات إلى نظام إلكتروني شفاف لا يتلاعب به فرد . ويمكن أيضاً من تنفيذ منصة وطنية لإدارة المخزون الاستراتيجي والتوازن النقدي والسلعي لاحقاً ، تُمتص عبرها موجات الذعر وتُطرح السلع وقت الأزمات بآليات السوق لا بالدعم ، بعد أن تغتني الدولة من تدفق الاستثمارات وما يترتب عليها من وفرة في الموارد .
وكذلك توحيد الضرائب والرسوم في منصة واحدة عادلة ، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتُخفّض نفقاتها الاستهلاكية خلال عام ، وإنشاء نظام عدالة رقمية يعيد الثقة بالقضاء ويقطع الطريق على التدخلات .
وغني عن القول أن القوام الأساسي لتحرير الإقتصاد ووسيلته الركنية هو تحرير سوق العملات بالكامل وفق قانون العرض والطلب
في سوق علني شفاف تحت رقابة منصات الدولة الرقمية . فالرهان على المسكنات مضيعة للوقت ، والجنيه لن يستعيد عافيته من قوة القرارات المؤقتة ، إنما من قوة السوق الحر الشفاف الذي يضبط نفسه بنفسه حين يُفتح بلا قيود ويُدار برقمنة متكاملة .
وسيظل التدهور قائماً بل متفاقماً ، والسوق الموازي حاكماً تخضع له الدولة ، بل ويخضع معها الشعب له ، ما لم يُتخذ القرار الصائب برفع هذا الستار الوهمي وتقنين السوق الموازي ليكون سوقاً حراً معلناً مراقباً دون تدخل سافر في آلية العرض والطلب ، عبر ما سُمّي في بعض المراحل بسعر تأشيري أو مرن مدار أو نحو ذلك.
وهنا تبرز حقيقة لا يجوز القفز عليها وهي أن سوق العملات السوداني اليوم محرر عملياً وواقعياً عبر السوق الموازي . فالجميع – مواطنون وحكومة ووزراء – يؤمنون حاجتهم من العملات الأجنبية للسفر والعلاج
وحفظ القيمة من هذا السوق ، لا من السوق الرسمي الذي لا يتعامل معه أحد . حتى رئيس الوزراء إن أراد تحويل ما لديه من دولار أو يورو أو الشراء ، لا يجد أمامه إلا السوق الموازي . هذا السوق المهيمن سيظل قائماً مهما تعددت وسائل “المكافحة” الموهومة ، فلا خيار إلا أن يبقى ملكاً لثلة قليلة تستنزف الشعب والدولة ، أو أن يُرفع الستار عنه بإعلان التحرير الكامل ، عندها فقط تتيسر العملات الأجنبية للمواطنين والدولة بصورة معلنة، وتزول موجات الهلع المتكررة من انخفاض الجنيه ، وتتحقق الطمأنينة ، وينفتح الباب الأوسع أمام تدفق الاستثمارات التي تحجم اليوم عن الدخول بسبب جدار المنع المصطنع لتحويل الأموال .
إن تحطيم هذا الجدار هو مفتاح الانطلاق الحقيقي ، إذ يفتح المجال أمام دخول الأموال وخروجها تلقائياً ، ويؤمن تدفق الاستثمارات وما يستتبعها من بناء مشاريع كبرى عبر صيغ التمويل الحديثة مثل BOT وPPP وغيرها، بما يضمن القضاء على البطالة وشيوع العمران .
أما التوازن النقدي والسلعي ، فليس المقصود به أن تمتلك الدولة اليوم خزائن ضخمة من العملات أو السلع قبل أن تبدأ التحرير ، فهذا وهم طالما اتخذ ذريعة لتعطيل الإصلاح . بل الحقيقة أن التوازن النقدي والسلعي لا يُبنى مقدماً وإنما يُكتسب تدريجياً بعد فتح الأبواب واندياح الاستثمار وتوسع الإنتاج ، حين تبدأ الدولة في الاغتناء من الرسوم والضرائب والجمارك الناتجة عن الحراك
الاقتصادي العام . عندها فقط تستطيع الدولة أن تُنشئ منصات ذكية لامتصاص موجات الذعر المؤقتة ، سواء بضخ سلع وقت الأزمات أو بضخ سيولة وقت الشح ، لكن دون أن تكسر قاعدة التحرير أو تعود إلى منطق الاحتكار والدعم . أي أن التوازن النقدي والسلعي هو ثمرة لاحقة للتحرير وليس شرطاً مسبقاً له .
وبالتوازي مع تحرير الاقتصاد ورقمنة الدولة بالكامل يمكن اتخاذ الاجراءات التفصيلية التي تمكن من تنفيذ السياسات الكلية اللازمة للنهوض الاقتصادي ، ومن ثم تقوية مركز الجنيه السوداني في مواجهة العملات الأجنبية وحمايته من التدهور وتشمل :
إعادة بناء منظومة الاستثمار على أساس قانون موحد عادل يمنع الاحتكار ويكفل حرية النشاط الاقتصادي .
إشاعة وتعميم صرّافات تداول العملات المراقبة والمرصودة عبر منصة الدولة القومية المركزية بكل ولايات السودان ، وداخل كل حي أو مجمع سكني أو قرية نائية ، بحيث يستطيع من شاء داخل السودان أو خارجه عبر مراسليها أو مراسلي البنوك أن يبيع ويشتري ويحوّل ما يريد من عملات بالعملة الوطنية أو الأجنبية متى وأين شاء ، بكل يسر وسهولة كما لو كان ينجز حاجاته اليومية ، فتحصد الدولة بذلك تدفق الاستثمارات ، وإتاحة التمويل ، وتيسير الإجراءات ، واغتناء الدولة والشعب معاً .
تحرير سعر الصرف بالكامل بدمج السوق الموازي في النظام المصرفي تحت رقابة المنصات الرقمية ، والسماح بتحويل الأموال دخولاً وخروجاً بلا قيود .
الإعلان يومياً عن سعر الذهب وفق البورصة العالمية ، وسعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني عبر منصّتي الذهب والعملات الرقميتين داخل البنوك والصرافات وعبر الوسائط . وبذلك يسهل بيع الذهب السوداني للجميع ولو بمعدل جرام واحد ، وفق السعر العالمي وبالمقابل المحلي المحرر (الحقيقي) أو إن شئت فسمّه السوق الموازي المعلن المرسمن .
وبهذا تكون قد حُلّت جميع التعقيدات والإشكالات ، وانتهى التهريب ، وفتح باب النهضة على مصراعيه .
إنشاء منصة موحدة للمغتربين ، توجه الدولة عبرها خطاباً سياسياً ورمزياً جامعاً إليهم ، يحمل طابعاً وطنياً ، يعطيهم إحساساً بأنهم شركاء أصيلون في النهضة .
وهذه المنصة لا تضيف قيداً جديداً ، بل تُبسّط الإجراءات بأن تفتح لهم حسابات رقمية ، تُمكّنهم من تحويل الأموال مباشرة ، وتوثّق استثماراتهم وعقودهم عبر نظام رقمي شفاف ضمن التحرير الشامل للاقتصاد والرقمنة المتكاملة ، مما يجعل أي سوداني خارج الوطن قادراً على تحويل أمواله تلقائياً واستثمارها بحرية وشفافية ، مع إعفائهم من الضرائب لسنوات تشجيعاً على البناء .
والغاية هنا ليست تمييزهم عن المستثمر الأجنبي ، وإنما لإعادة ثقة المغترب في وطنه ، وتوفير إطار يطمئنه بعد سنوات من المعاناة مع البيروقراطية والفوضى .
لا شك أن مجرد إعلان تحرير الإقتصاد وبالتالي تحرير تداول العملات لن يحدث تدهوراً وفي نفس الوقت لن يؤدي لأول وهلة إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية ، بل سيستمر التدهور بذات النسبة السابقة في البداية ، وفق قانون العرض والطلب. لكن سرعان ما تبدأ العملة الوطنية في التعافي تدريجياً مع تدفق الاستثمارات وزيادة
الإنتاج والصادرات . وبذلك يكون المستقبل واعداً ومشرقاً ، عوضاً عن حاله المنظور اليوم بائساً مظلماً .
ويرى أنصار المدرسة الكينزية أن التدخل الحكومي المؤقت ضروري لتفادي الصدمات التضخمية وارتفاع البطالة عند تحرير السوق . غير أن هذا النموذج يفترض مؤسسات قوية وانضباطًا سياسياً غائباً في الحالة السودانية، مما يجعله غير قابل للتطبيق واقعياً ، ولن يكون التضخم والبطالة فى حالةالسودان اسوا مما هما فيه بل سيقلان لا محالة تبعاً للإصلاحات.
وقد أوضحت الدراسات الاقتصادية الحديثة (تقرير “Globalization and Currency Reform” – جامعة شيكاغو 2020) أن صدمة التحرير الأولى قد تستمر من 3–6 أشهر ، لكن يبدأ بعدها الاستقرار التدريجي مع تدفق الاستثمار . وهذا يؤكد أن ما أشرنا إليه من “تدهور ثم تعافٍ تدريجي” هو مسار منطقي مدعوم بالنماذج الاقتصادية، بل إن الصدمة فى حال اقتصادنا منتفية تماما لكونه اصلا مصدوم إن لم يكن معدوماً .
وحتى لو سلّمنا جدلاً بوجود سلبيات مؤقتة للتحرير، فإن المتأثرين سلباً يقتصرون على شريحة موظفي القطاع العام ، وهي شريحة محدودة قياساً إلى مجموع الشعب ويمكن أن تتخذ الدولة من الإجراءات المؤقتة ما يراعي أوضاعهم لحين استقرار الأمور وانطلاق النمو، .
أما بقية الشرائح فترتفع دخولها تلقائياً بالتوازي مع التضخم ؛ فأصحاب الأعمال الحرة يرفعون أجور خدماتهم مباشرة، وموظفو القطاع الخاص ترتفع أجورهم مع رفع أصحاب العمل لأسعار منتجاتهم . ثم إن الدولة أصلًا لا تقوم حاليًا بأي نوع من الدعم للسلع أو الخدمات، ما يجعل حجة “الضرر العام” وهمًا لا حقيقة.
الكثير من الدول التي نهضت مؤخراً من كبوات عميقة استفادت من تحرير اقتصادها وإطلاق العملة وفق آلية العرض والطلب مما عالج اختلالات كبرى في بنية النشاط الاقتصادي الجزئي وبيئة الاقتصاد الكلي . وأثبتت هذه الوصفة نجاحها عالمياً
وظهرت هذه المكاسب الكبيرة بوضوح في مثال الذهب ففي تجربة إستونيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي خير شاهد ، حيث قفزت من بيئة فاسدة إلى دولة رائدة بمجرد أن جعلت الرقمنة شاملة لكل مفاصل الإدارة ، في بيئة محررة الاقتصاد ، فأُغلقت أبواب التهريب والفساد تلقائياً .
وغانا حين عانت من التهريب لم تلجأ للاحتكار ، إنما أنشأت بورصة ذهب حرة خاضعة لرقابة رقمية شفافة ، فاستقطبت المنتجين نحو القنوات الرسمية وقلصت التهريب .
وفي رواندا تحرر السوق وارتبط برقمنة الخدمات ، فانطلقت التنمية من تحت ركام الحرب الطاحنة التي عاشتها .
أما السودان فيخاطر بأن يعيد إنتاج ذات الدائرة الخبيثة التي جرّت عليه خسائر فادحة مستمرة .
إن طريق التحرير الشامل والرقمنة المتكاملة هو وحده الكفيل بأن يرفع القيود عن طاقات السودان ، ويكسر جدار العطالة والعجز ، ويفتح الباب واسعاً أمام اندياح الاستثمار وانطلاق النهضة الكبرى التي يستحقها هذا الوطن .
إن المحصلة النهائية المطلوبة للشعب والدولة هي شيوع العدل بكل وجوهه وتوطّن الإحسان ، وحراك الحياة بالأنشطة والعمل ، واستيعاب الأنفس العاطلة وتشغيلها .
كما تقتضي تأمين الناس من الخوف على الأنفس والأعراض والأموال والحاجة والمسغبة، وتوفير التعليم والعلاج، وإتاحة البيئة الصالحة للتفكير والإبداع والابتكار .
وكل ذلك لن يتاح إلا عبر تهيئة البيئة الصالحة للاستثمار المدار بمنظومة قيم راشدة وقانون نافذ ، بما يؤدي إلى إحالة البلاد المضطربة إلى آمنة ومتمرديها إلى منتجين ، ويحيل اضطرابها إلى استقرار ثم ازدهار قيمي ومادي .