يوسف عبدالمنان يكتب: .. خارج النص.. كي لا نبكي القمير

يوسف عبدالمنان يكتب: .. خارج النص.. كي لا نبكي القمير
تظل مدينة بابنوسة والفرقة الثانية والعشرون في أحشاء القلب، في مشاش العظم، داخل الكبد. نتسقَط أخبارها من خلال مصادر الأهالي، ومن فرسان أرض المعركة: اللواء معاوية وفارس معركة الكرامة حسن درمود، ومن المجاهدين عيسى عبدالمولي، والصادق عبدالله، ومن أحمد فضل — البعيد جغرافيًا عن مسرح المعركة والقريب وجدانيًا. نهرع إلى الهواتف وبكل أسف لا نملك غير القتال بالكيبورد. يا له من بئس قتال في زمن أصبح فيه إعلان الجهاد واجبًا وفرضَ عين، ولكننا نسعى لرضا أمريكا لا لإرضاء ربّ الكون أجمعه.
بابنوسة القمير اختبار آخر لقدرة أهل السودان على إنقاذ أكثر من ثلاثة آلاف من فلذات أكبادهم، بعد أن أحكمت المليشيا حصارها — على طريقة الفاشر التي تحملت قيادة الدولة سقوطها، وحملت أهل دارفور مسؤولية السقوط، وحمل الشعب السوداني الذي لم يهبّ لنصرة الفاشر جزءًا من المسؤولية. الكل يدرك أن سقوطها حتمي، لكننا أثَرْنا الأفراح التي تحملها هواتفنا عن دحر الفرقة السادسة للهجوم العاشر ثم الخمسين ثم المائة. ونحن هنا قاعدون؛ حتى بلغ عدد الانتصارات ثلاثمائة تقريبًا، ولم نعد للفاشر الرجال لإنقاذ نسائها حتى وقعت الواقعة. ولا نريد في بابنوسة أن ينشق قميرها وتسقط تحت أحذية الجنجويد، وتندلق حمامات الدم من كجيرة إلى المجلد، ومن أبو اللِّكيري حتى لقاوة، ويستبيح الأوباش مدينة العلم والثقافة — مدينة الرجال لا النياق.
إلى متى نظلّ نقرأ أخبار صد فرسان الفرقة الثانية والعشرين هجومًا بعد آخر، وهلاك قائدٍ هنا وموت مائة مرتزق هناك؟ دم جندي واحد من جيشنا أَغلى عند البعض من دماء ألف مرتزق. ومتى كان الموت عبرة لمن أغفلنا قلبه عن ذكر الله واتبع هواه، وكان أمره فرطًا؟
مات الآلاف داخل أسوار المدرعات من المليشيا، ولم يزدهم الموت إلا طغيانا في الأرض. ومات في أرض الفاشر نحو نصف مليون من المرتزقة، لكن الإمارات أتت بمليون مرتزق دمرت الفاشر أكثر من ألف عربة ومئات مصفحات، ولم تُبالِ المليشيا بكل تلك الخسائر.
لا ريب أن بابنوسة ستدفن في ترابها آلاف الجنجويد، لكن هل ننتظر في بيوتنا وفي مقاهينا وتحت ظلال الأشجار، نجتر أحزاننا ونفرح لخبرٍ في واتساب مشكوك في صحته، حتى نفيق فنجد بابنوسة القمير تتجوّل فيها امرأة تُدعى تسابيح خاطر شغلت الناس بجهلهم وفراغهم وصرفتْنا عن معركة كردفان التي لا مبرر مطلقًا لتأخيرها؟ كل يوم تزحف المليشيا على بابنوسة والدلنج وتهدّد الأبيض بالمسيرات.
دعوا القوات المسلحة التي لها تقديراتها وظروفها، ولكن أين المقاومة الشعبية التي ماتت في النفوس لأن جنرالات الخدمة المعاشيين يريدونها كذلك؟ وأين المجاهدون من أبناء كردفان بصفة خاصة، وفرسان المسيرية أهل الرأس والجلد؟ هل تنتظرون حتى تسقط بابنوسة ونبحث عن أخبار مصير اللواء معاوية والفارس درمود؟ اللحظة الآن تتطلب من الجميع هبة واحدة لتحرير الدبيبات وأبوزبد والفولة وفك الحصار عن بابنوسة والدلنج — لكن لمن نقرع الأجراس؟





