هروبا من قسوة المجتمع.. ابتزاز يمنيات بصورهن يدفعهن إلى الانتحار
هروبا من قسوة المجتمع.. ابتزاز يمنيات بصورهن يدفعهن إلى الانتحار
حين ألمحت الناشطة سارة علوان على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” إلى احتمال انتحارها بسبب شخصين حاولا ابتزازها بصورها، لم يؤخذ على محمل الجد. لكنها بعد ساعات أطلقت النار من مسدس على صدرها، ولحسن حظها أخطأت الرصاصة القلب.
تجاوزت سارة محنتها بعدما نُقلت إلى العناية الفائقة في المستشفى، وقال والدها -الذي ظهر في تسجيل مرئي بثته السلطات الأمنية في محافظة تعز جنوب غربي اليمن- إن حالتها مستقرة.
تنشط سارة في مبادرات إنسانية على غرار توزيع المساعدات للنازحين، ومساعدة مرضى السرطان. ومنذ أشهر، أبلغت الشرطة بتعرضها لابتزاز، لكن الأخيرة لم تتدخل، بحسب ما قالت سارة، مما دفعها إلى محاولة الانتحار.
وأثارت الحادثة عاصفة من التضامن بين اليمنيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وأعادت التذكير بملف معقد في بلد محافظ يفرض قيودا شديدة على المرأة ويتعامل معها بحساسية بالغة، وفي أحسن الظروف يعمد الأهالي إلى نبذ النساء اللواتي يتعرضن للابتزاز.
ولا يوجد في اليمن إحصاءات رسمية عن حجم عمليات الابتزاز الإلكتروني، لكن ناشطين يمنيين يواجهون شبكات الابتزاز والمبتزين يتحدثون عن 6 انتحارات لفتيات جرى ابتزازهن بنشر صورهن.
ويقول الناشط فهمي الباحث، وهو عضو مؤسس والرئيس السابق لجمعية الإنترنت في اليمن، للجزيرة نت إنه ومجموعة من المتطوعين يتلقون العشرات من حالات الابتزاز أسبوعيا.
ابتزاز مقابل المال
تعيش بشرى (اسم مستعار) حالة من القلق اليومي تحوّل إلى رهاب من الهاتف، إذ تتوقع -في أي لحظة- أن أحدا ما قد يرسل لها صورا التقطها زوجها لها قبل انفصالهما قبل سنة. وتقول للجزيرة نت إن زوجها السابق بدأ ابتزازها حين التحقت بالعمل وبدأت تتقاضى راتبا جيّدا يبلغ نحو 500 دولار شهريا، غير أنها رفضت التجاوب معه.
وتضيف “اعتقدت أنه يهددني فقط لأمنحه المال، لكن السماء أظلمت في عيني حين بعث إليّ رقمٌ مجهولٌ صورتي لأضطر إلى مفاوضته.. ودفعت له مالا”.
اعتقدت بشرى أن ذلك سيكون مرة واحدة، بيد أن زوجها ابتزها مجددا لتدخل في حالة اكتئاب فكرت خلالها في الانتحار. وبمساعدة شقيقتها، خاطرت بالحديث لأهلها واستعانت بهم، ليتعهّد زوجها بوقف ابتزازها وحذف صورها، لكنها تعيش في ظل مخاوف من تكرار الحادثة.
ويلتزم المجتمع بالتكتم الشديد في مواجهة قضايا الابتزاز، وغالبا ما تتخلى الأسر عن الضحايا، وتصير حياتهن جحيما، إذ تُتهم الضحية أمام أسرتها بتدمير سمعة العائلة.
طرد من القرية
في إحدى قرى محافظة إب، وسط اليمن، دفعت نظرات الازدراء والمعاملة الدونية من السكان أبا عمار وعائلته إلى مغادرة قريته نهائيا، على الرغم من إنفاق الأب كل ما جمعه طوال سنوات اغترابه خارج البلاد لبناء منزل الأسرة هناك.
يقول وليد أحمد، أحد أهالي القرية، للجزيرة نت إن القصة بدأت حين تسربت صور ابنة أبي عمار عبر ذاكرة هاتفها إلى أحد الشبان. ولأن والدها كان ميسورا، ابتز الشاب الفتاة من أجل الزواج. وحين رفضت نشر صورها على الملأ.
ويضيف “وُبخ الشاب الذي سرَّب الصور من المجتمع قليلا، لكن الفتاة وأسرتها كانوا هم الضحية، على اعتبار أن الأسرة سمحت للفتاة بامتلاك هاتف التقطت به صورا لها. وهذا يُعد إدانة واضحة لها، تستحق به ما جرى لها”.
بعد أوسع
أخذت عمليات الابتزاز الإلكتروني بعدا أوسع في ظل انتشار الهواتف، إذ راحت تتسرّب صور لنساء في جلسات عفوية يرقصن فيها على أنغام الموسيقى، وغالبا ما تتسبب تلك الفيديوهات في حملات ابتزاز لنساء.
لكن الطريقة الأكثر شيوعا تتمثل في حديث مبتزين مع فتيات على مواقع التواصل وبرامج المراسلات الفورية، وإيهامهن بالحب. ويتطور الأمر إلى إرسال الفتاة صورة لها من دون حجاب، وحينها تبدأ سلسلة الابتزاز للحصول على صور أخرى أو دفع الفتاة إلى ارتكاب أفعال لا أخلاقية.
ولعدم شعور الفتاة بالأمان وخشيتها رد أسرتها الذي قد يصل إلى القتل، فإنها تضطر إلى تنفيذ رغبات المبتز وإخفاء ما تتعرض له من ابتزاز وضغط.
تقول المحامية والناشطة النسوية وداد الحلك للجزيرة نت “على الفتيات اللواتي يتعرضن للابتزاز عدم الرد على المبتز ورفض الانصياع لمطالبه، مهما كان حجم التهديد، وحذف أي مراسلات بينهما مهما كانت غير ملائمة، وحظر التواصل معه نهائيا”.
وتنصح الضحية بإخبار شخص تثق فيه يُفضل أن يكون من عائلتها. حينها، يجب الذهاب إلى أقرب قسم للشرطة، وإذا تم تجاهل شكواها، عليها الاستعانة بالمنظمات المعنية بحماية المرأة من العنف.
وفي البلد الذي لا يزال يشهد حربا مستمرة بين جماعة الحوثيين والحكومة المعترف بها دوليًا منذ 8 سنوات، وُظف الابتزاز الإلكتروني سياسيا لابتزاز مسؤولين حكوميين وناشطين من الجهات كافة، بحسب ما يقول فهمي الباحث.
وخلال السنوات الأخيرة، أسس الباحث مع آخرين مبادرة تطوعية تنشط في التوعية بالسلامة الرقمية ومساعدة ضحايا الابتزاز، وأغلقوا صفحات وحسابات على مواقع التواصل تسرّب صورا لفتيات، كما ضغطوا على المبتزين لحذف الصور.
الحلول الودية
ولأن الابتزاز الإلكتروني حديث، فإن نصوص القانون اليمني غير المحدثة لم تضعه ضمن الجرائم، وتتعامل السلطات معه بوصفه إدانة تتناسب مع المادتين 313 و254 من قانون العقوبات اليمني، بحسب ما يقول الناطق باسم الشرطة في محافظة تعز المقدم أسامة الشرعبي.
وتنص المادة 313 على أنه “يُعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز 5 سنوات، أو بالغرامة، كل من يبعث قصدا في نفس شخص الخوف من الإضرار به أو بأي شخص آخر يهمه أمره”.
أما المادة 254 فتنص على أنه “يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة كل من هدد غيره بأي وسيلة بارتكاب جريمة أو بعمل ضار أو بعمل يقع عليه أو على زوجه أو أحد أقاربه حتى الدرجة الرابعة، إذا كان من شأن التهديد أن يحدث فزعا لدى من وقع عليه”.
وبحسب المقدم الشرعبي، فإن كثيرا من قضايا الابتزاز لا تصل إلى الشرطة، إذ تحجم الضحايا عن تقديم بلاغات إلى الجهات الرسمية بسبب القيود الاجتماعية والخوف من رد الأسرة والمجتمع.
ويقول الشرعبي للجزيرة نت “بالنسبة إلينا نحن جهاز شرطة، فإننا نتعامل مع أي بلاغ يصل إلينا وفق إجراءات قانونية. وبعد الضبط واستكمال الإجراءات، نحيل ملف القضية إلى النيابة، لكن هناك ميل وتوجه نحو إنهاء أغلب القضايا وحلها وديا”.
وفي منتصف أغسطس/آب الماضي، أعلن مجلس القضاء الأعلى التابع للحكومة المعترف بها دوليا إنشاء نيابة متخصصة في الصحافة والنشر الإلكتروني والمطبوعات. لكن فهمي الباحث يقول إنه قبل إنشاء محكمة أو نيابة تختص بالقضايا الإلكترونية، نحن بحاجة إلى قانون خاص بالجرائم الإلكترونية.
وعي المجتمع
أثارت محاولة انتحار الناشطة علوان حالة من التضامن المجتمعي. لكن لبنى القدسي، وهي عضو الأمانة العامة للتنظيم الناصري ومحامية في اللجنة الوطنية للمرأة (حكومية)، ترى أن المجتمع اليمني لا يزال محافظا وينظر إلى هذه القضايا كخط أحمر، وأي مساسٍ بالكرامة والشرف لا بد أن يُغسل بالدم، وقصة سارة وجدت تضامنا لأنها خرجت إلى العلن عقب محاولة انتحارها.
وكانت السلطات الأمنية في تعز أعلنت القبض على المتهمين بابتزاز سارة على الفور، وطالب يمنيون على مواقع التواصل بعدم التهاون معهما إذا كانا مذنبين.
وتقول القدسي للجزيرة نت إن “الفتاة هي الضحية دائما من المبتز والمجتمع والأسرة، إذ تتعرض للعنف اللفظي والجسدي، وينظر إليها باحتقار ودونية، على اعتبار أنها ارتكبت جريمة بشعة. لذا فإن المجتمع بحاجة إلى التوعية بهذه الجرائم وبخطورتها على الفتاة، وأن هناك عقوبات على المبتزين”.
وتوضح أن “المبادرات المجتمعية التي تواجه المبتزين وتدعم الفتيات في مواجهة الابتزاز، تُعد خطوة ممتازة نشجعها، شرط أن تعمل هذه المبادرات بنزاهة وإنسانية وصدق”.
تقدمت سارة بشكوى للجهات الأمنية، وظل المجرم حُرا طليقا يتستر عليه المجتمع وما تبقى من الدولة حتى قررت إنهاء معاناتها.