مقالات

نزار حسين يكتب:.. (بروباغاندا)..لن يأتي أبداً..!

 نزار حسين يكتب:.. (بروباغاندا)..لن يأتي أبداً..!

 

لم يكن وهو يغادر باب المدرسة التي يسكنها لأكثر من عام، نازحاً من بيته الذي شهد ذكريات شبابه وسنين زواجه الأولى، بيته الذي بناه بجهدٍ بذله لثلاثين عاماً متتالية..!

في لحظة ملعونة طرق بابه أصحاب العمائم الغريبة، المتربة بالإثم والملطخة بالخطيئة، لم يكن يدري أن هذا المشوار الذي سيذهب إليه قاصداً سوق (صابرين) سوق البسطاء والفقراء والمساكين، سيكون مشواره الأخير في هذه الدنيا..! حمل كيسه البلاستيكي الذي يحمله لأي

مكان، المخبز، الطاحونة والصيدلية، ذلك الكيس الذي يوفر له مبلغ (100) جنيه فقط، فبحساباته هو يستطيع الاستفادة منها كلما تراكمت لتشكل مبلغاً يمكنه أن يشتري به الملح أو البهار أو ربما حبة (أسبرو) تخفف عليه آلام الركب الليلية..!

كان في جيبه مبلغ محدود جداً، فهو لا يذهب إلى السوق إلا على فترات متباعدة لأن حياتهم كلها تعتمد على (التكايا) فلا عائل له ولأسرته وقد بلغ من العمر مرحلة لا يستطيع فيها أن يقوم بأي عمل، وابنه الوحيد الذي كان يساعده في مسؤوليات الأسرة تم اعتقاله بتهمة تأييد

الجيش، لا يعرف له تهمة أخرى، وهو لا يدري ما إذا كان على قيد الحياة أم أنه دفنوه حياً كما يسمع من الناس..!
يحمل في صدره كل آلام الدنيا، وتستعر عروقه من اللهيب الذي تحمله دمائه الغاضبة، ويكاد عقله يغادر إلى المجهول من كثرة الهم والتفكير في كيفية تدبير الحال.

وشوقه وقلقه على ابنه الوحيد الذي يكتمه، يوقظه ساعة من الليل لا ينام بعدها حتى تشرق الشمس ليدخل من حالة من غيبوبة التعب، فشيخ في عمره لا يقوى على الهم والجوع والتشرد والسهر..!

ودَّع زوجته المريضة وذكَّرته أن يمر على الصيدلية الخيرية ليجلب لها (دواء الضغط) ولابنتها حبوب (الكهرباء) فهي مصابة بضغط لا يكاد يهبط منذ أن غادرت بيتها وفقدت ابنها الوحيد، ولا تملك ما تذهب به للطبيب ليغير لها الجرعة أو يحدد لها كيفية العلاج،

وابنتها المصابة (بالكهرباء الزائدة في الرأس) وهو التشخيص الذي تجهل ما يعني بالضبط، تستلقي طيلة اليوم على سريرها، لا تقوى على شئ بعد الصدمات التي أصابتها رعباً من أصوات الرصاص التي لا تنتهي وصدى الدانات العشوائية التي تهز سريرها ليل نهار، وقد تتعرض للموت إن لم تجد دواءها الدائم الذي أنهك جسدها النحيل..!

مضى يجرجر قدميه بصعوبة شديدة فهو يعاني من نقصٍ في أغلب الفيتامينات بسبب اعتماده لعام كامل على نوع معين من الغذاء يتمثل في (الفول) و(العدس) ولا يكاد يجد كوباً من الحليب طيلة هذا العام، وعن الفواكه فهو وأمثاله من فاقدي بيوتهم ومصادر دخلهم وحصائل سنواتهم قد نسوا هذه الكلمة ولم تعد تدخل قائمة احتياجاتهم المنزلية المعتادة..!

وصل الصيدلية ووجد دواء الضغط لزوجته ودواء ابنته بعد أن وقف في صف طويل، صامت، يتحدث صمته عن آلام هؤلاء الناس الذين كانوا أعزاء في وطنهم آمنين في بيوتهم لم يعرفوا مذلة العوز ولم تمتد كفوفهم العفيفة يوماً تستجدي الغذاء أو الدواء..!

توقف في محطة (شقلبان).. وهو (الدوران) المعروف في منطقة الثورات، قاصداً سوق (صابرين) ليشتري نصف كيلو من الطماطم وبعض الخضار، بمبلغ أرسلته لهم قريبة زوجته المغتربة بإحدى الدول العربية، وهو مبلغ يسير لا يكفي لشراء كل ما يحتاجونه، لكنهم اشتاقوا لطعم الخضار، والطبيخ وانتهزوا هذه الفرصة ليتذوَّقوا طعم

صحن من (الخضرة المفروكة) (والكسرة) وليتوقفوا ولو ليوم واحد أو يومين عن ملء أمعائهم الفارغة بـ(الفول) و(العدس)، وربما بعض المعكرونة المطبوخة بصورة اقتصادية زيد فيها الماء ليُفقدها طعمها الحقيقي..!
نادى (الكمساري): (صابرين.. خليفة، صابرين) ليجري بأنفاسٍ متصاعدة نحو الحافلة التي ستحمله إلى السوق..!

وجلس متنهداً، فالمشوار من المدرسة إلى المحطة مروراً بصف الصيدلية كان صعباً على سنواته الثمانين..!
تحركت الحافلة صوب خليفة، وفي هذه اللحظة كانت ابنته المريضة قد أحسّت بالجوع، وزوجته تحاول أن تقنعها بأن (تتصبَّر) بكوب من الشاي مع قطعة خبز جافة لأن أباها قد يتأخر فصف الصيدلية طويل ومشوار السوق يستغرق وقتاً..!

لم يدْرِ وهو يتأمل اللافتات في شارع (النص) وملامح الحياة التي بدأت تدب مع تعافي البلاد من سرطان الحرب، أنه يضع نظرة الوداع على كل لافتة قرأها وعلى لون كل بناية أعجبته وعلى هذا الزحام المحبب الذي افتقده منذ أن بدأ كارثة الحرب التي دفع ثمنها ولا يزال..!

لم يدْرِ أن الفاتورة الأخيرة كانت هي روحه التي ستزهق على هذا المقعد، وأن دانة ملعونة سيطلقها مليشاوي مجهول الهوية، نكرة الذات، ستكون بمثابة التوقيع على نهاية حياته التي فقد كل ما بناه فيها طيلة سنوات عمره التي قضاها في هذه المدينة..!

سقطت الدانة على حافلة الركاب التي كان تحمل كثيراً من القصص المؤلمة، بسبب الحرب، فقد كانت فيها المرأة، والشاب وحتى التلاميذ الصغار قد أوفدوا في هذا المجزرة نموذجين لتحكي هذه الحادثة صفحات مليئة بالدماء من ملف الانتهاكات الإنسانية التي لا يستطيع المحصي لها أن ينتهي.

انتظرت زوجته دواء الضغط، و(تصبرت) ابنته بكوب الشاي الأحمر والرغيف الجاف، وهما تتطلعان إلى دخوله بعد قليل حاملاً كيسه (الأصفر) الوحيد.. لكنهما لم تعلما أنه لن يأتي أبداً.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى