مولانا الفاتح بشير الوسيلة الماحى :الأبعاد السياسية والقانونية.. وراء قضية الجثث مجهولة الهوية
الأبعاد السياسية والقانونية..
وراء قضية الجثث مجهولة الهوية
مولانا الفاتح بشير الوسيلة الماحى
ان للإنسان قيمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالي، فقد كرمه وسخّر له الدنيا، وارسل اليه الرسل، ليهتدي بهم الي ما يرقي به في كل مدارج الكمال والجمال، ويصون كرامته حياً وميتاً.
ولعل في ارساله سبحانه وتعالي للغراب ليعلم قابل ابن ابانا آدم كيف يوارئ سوءة اخيه، فيما اخبرنا به في القرآن الكريم في قوله تعالى :(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (31)
سورة المائدة، دلالة واضحة علي هذا التعظيم، حتي اصبح من المستقر بين الناس ان اكرام الميت في دفنه، وقد افرد الفقهاء المسلمين الابواب في مؤلفاتهم في فقه الجنائز لخطورة هذا الامر علي الامة كلها ان تاخرت عن القيام به.
ما دعاني لهذا الحديث ما يثار منذ فترة ليست بالقصيرة عن قضية الجثامين مجهولة الهوية والتي تتكدس بها المشارح ليس في الخرطوم عاصمة الدولة فحسب، بل في عدد من ولايات السودان، ابرزها ولاية الجزيرة حيث دقت ناقوس الخطر حول هذه الظاهرة ويومها تناولتها اجهزة الإعلام علي خلفية احتجاج الاهالي مما نتج من روائح وغيرها من اثار من المشرحة..
ولحقها بعد ذلك التذمر الذي قام به السكان المجاورين للمستشفي الاكاديمي بالخرطوم مما تسببت فيه المشرحة من روائح وغيرها، ثم ياتي الان إثارة ذات القضية من مشرحة مستشفي بشائر، مما يثير سؤال مهم حول اسباب هذه الظاهره؟ وهل هي قضية سياسية ام قانونية؟
وكيف كان التعامل معها سابقا تحديدا قبل واقعة فض الاعتصام؟
وللاجابة علي هذه الاسئلة لابد من الاقرار بأن ظاهرة الجثث مجهولة الهوية ليست بالظاهرة الجديدة او الحديثة فهي ظاهرة موجودة وتعرفها كل دول العالم حتي المتحضرة منها _ واعني بالمتحضرة هنا تلك التي تتحذ وسائل وتقنيات حديثة في الثوثيق لهوية مواطنيها بشتي الوسائل للاستعراف عليهم عند الضرورة.. وبالتالي السودان عرّف هذه الظاهرة منذ زمن بعيد، ومن ثم وضع لها القوانين التي تنظّم التعامل معها، وحدد الجهات التي لها الولاية عليها.
و للاجابة حول اسباب نشؤ هذه الظاهرة فإن اسبابها متعددة بحسب الاحوال فقد تكون نتيجة لظروف او كوارث طبيعية، وقد تكون لحوادث مرورية، او لحالات الغرق، او نزاعات قبلية، او وفاة لظروف طبيعة، داخل المستشفيات او في الطرق العامة، ممن تفاجئهم علة صحة طارئة ولم يكن معهم مايبن هوياتهم. ولايدخل في هذه الجرائم التي ينتج عنها حالات قتل لانها في اغلب الاحوال تكون معلومة الهوية مالم يكن جريمة القتل وقعت علي ضحية ربما تكون خارج دائرة إقامتها الطبيعية..
ويتعذر التعرف عليها، اضافة لحالات المشردين او الاطفال فاقدي السند الاسري وغيرها من الحالات، ومن النادر جدا ان لا تستقبل المشارح حاله من هذه الحالات، وكان يتم التعامل معها قبل واقعة فض الاعتصام وفق البرتوكولات المتعارف عليها عالمياً في التوثيق لحالة الجثمان للإستعراف عليه، ويتم ذلك بفتح ملف للجثة يتضمن اخذ صور فتغرافية لها واخذ عينات من الدم لتحديد نوع فصيلة الدم واحضار تيم الادالة الجنائية لاخذ عينات لي DNA، فضلا عن كتابة وصف تفصيلي للجثة، وبيان نوعها والعلامات المميزة لها، وحجم وطول الجثه، ويشمل وصف الملابس. نوعها والوانها، والجهة التي احضرتها ويقيد بلاغ تحت المادة (51) و(52) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م، وهي تتحدث عن الوفاة في ظروف مجهولة وتبين الخطوات التي يجب ان تتبع عند العثور علي الجثة، وتوضح الاشخاص الذين مخول لهم التعامل معها..
وللفائدة العامة اورِدها هنا وهي تقرأ – المادة
الوفاة في ظروف معينة –
(51ـ) 1) إذا وردت معلومات أو بلاغ بالعثور على جثة إنسان أو بانتحار شخص أو موته في حادث ما، فعلى
الضابط المسئول، ولو لم تقم لديه شبهة بارتكاب جريمة، أن يحرر تقريراً بالمعلومات أو البلاغ ثم يقدمه إلى وكيل
النيابة، وأن ينتقل فوراً إلى مكان الجثة، ويتحرى في سبب الموت، وفق إجراءات التحري في الجرائم المتعلقة بالموت.
(2 ) على الضابط المسئول عند اكتمال التحري أن يقدم تقريره إلى وكيل النيابة (3 ) على وكيل النيابة متى ما مكنته
حيثيات التحري من ذلك، أن يتخذ قراراً بتوجيه تهمة، أو قراراً مسبباً بأن الوفاة لا تترتب عليها تهمة، وعليه في هذه
الحالة أن يرفع قراره مشفوعاً بتقرير التحري الى رئيس النيابة العامة بالولاية.
_ التحري بوساطة الاداري عن الوفاة _
(52)، إذا وردت للاداري معلومات أو بلاغ بالعثور على جثة إنسان أو بانتحار شخص أو موته في حادث ما، فعليه أن يبلغ الضابط المسئول فوراً وأن ينتقل الى مكان الحادث ويقوم في حضور شاهدين أو أكثر بإجراء
التحري وفق إجراءات التحري في الجرائم المتعلقة بالموت، وأن يضع تقريراً بإجراءات التحري والأسباب الظاهرة
للوفاة، ووصف الجروح والكسور والإصابات بالجثة وبيان حالتها وما يحيط بها وذكر أي سلاح أو آله استخدمت في
الظاهرة التي إحدثت الموت وأي معلومات تكشفت له مما يتعلق بالوفاة، وعليه أن يرفع تقريره إلى الضابط المسئول
ويستمر في التحري حتى يتوالاه الضابط المسئول.
ومن المهم ان نقول بأنه كان علي الجهات الإعلان عن المتوفي مجهول الهوية عبر اجهزة الاعلام بهدف الاستعراف عليه..
واذا تعذر ذلك تقوم ادارة المشرحة بعد اسبوعين بكتابة تقرير للنيابة وتطلب الموافقة علي دفن الجثة وتستعين في ذلك بعد موافقة النيابة بادارة السجون، وذلك الي جانب العاملين بالمشرحة ويتم تحديد مكان دفن الجثة، ويظل الملف بالمشرحة والنيابة كل حسب ماهو مطلوب منه مما يسهل الرجوع اليه متي تطلب الامر ذلك..
اما في الحالات التي تستقبل فيها المشرحة اعداد كبيرة من الجثامين فيتم تصنيفها وتتبع فيها ذات الاجراءات التي اشرت اليها.
والملاحظ ان هذه الإجراءات كانت تراعي جوانب متعددة المدي الزمني الذي ينبغي ان يتوافر لجهات الاختصاص والمواطنين للاستعراف علي الجثة واكرام الجثة بدفنها، بعد تثبيت كل مايمكن من معلومات تمكّن وتعين من الاستهداء اليها عند الضرورة، مراعاة الظروف الصحية للجثة خاصة عند حدوث ظروف اقتصادية او فنيه تتعلق بالامداد الكهربائي، بالاضافة الي السعة التي تتوافر للثلاجات في اي مشرحة،
ولابد من ان نبيّن هنا ان القوانين المنظمة لمسألة الجثث في السوادان هي قانون الصحة العامة لسنة 1975م وقانون الانسجة والاعضاء لسنة 1978وقانون الاجراءات الجنائية لسنة 1991م. بالاضافة الى مناشير وقواعد خاصة بالمشرحة اصدرتها وزارة الصحه بعد عام 1959م عقب انشاء المشارح بالسودان.
هذه القونين خولت جهتان فقط للتعامل مع الجثامين مجهولة الهوية هما :
1/الطب الشرعي او العدلي
2/ووزير العدل، حيث حل محله النائب العام عقب عام 2017 بعد فصل النيابة عن وزاراة العدل.
وجعل النائب العام في الدعاوي الجنائية وليّ من لا وليّ له، لذا اصبح الجهة الوحيدة التي تملك الحق في التصريح بدفن الجثامين مجهول الهوية..
اما في الولاية علي الدماء فرئيس الجمهورية هو واليّ من لا وليّ له..
هذا هو الوضع القانوني عندما كان الملف يدار في الاوضاع الطبيعية للبلاد..
الا ان الامر تبدل حيث اصبح هذا الملف يدار سياسيا عقب واقعة فض الاعتصام ومن القوي السياسية سيما الممسكة بالجان المقاومة، حيث اعتبرت هذه القوي وتحت ازمة انهيار الثقه بينها والمكون العسكري بعد فض الاعتصام ان المشارح هي المكان الذي يضم جثامين ورفاة المفقودين من فض الاعتصام، لذا قامت هذه القوي فيما يمكن ان نسميه سحب الثقه من العاملين في الطب الشرعي عبر حملات هجوم مركزة عليهم ادت الي صدور قرارت ادارية بحقهم، ولا اعرف شخصاً تعرض للعنت والمضايقات الادارية والشخصية والاعلامية مثلما تعرض له العالم الجليل كبير الاطباء الشرعين الدكتور عقيل النور سوار الذهب، حتي بلغ الامر بهم تكون لجان تحقيق معه، لانه ادي واجباً قانونياً بدفن الجثامين كما هو معتاد وباشراف لجنة من اشخاص ذوي كفاءة وخبرة في مجال القانون، وقد تحمّل الرجل باخلاقه النبيلة كل ذلك في صبر وجلد، وامتد الامر للشك في قدراتهم باستقدام اطباء من خارج السودان تقريباً من الولايات المتحدة والارجنتين منعهم النائب العام السابق من الدخول الي المشارح لعدم حصولهم علي الاذن اللازم..
وعندما ظهرت قضية مشرحة مدني تم التعامل معها سياسياً وتم توصيفها حيث اعتبرت ان هذه الجثث ناتجة عن فض الاعتصام، وان العساكر اخفوا الجثث بنقلها الي مدني من الخرطوم، وعلي خلفية واقعة دفن الجثامين التي قامت بها لجنة دكتور عقيل خرج مدير ادارة الطب الشرعي ونائبه في التلفزيون القومي، حيث اعلنوا منع دفن اي جثة الا بعد صدور قرار منهم.
هذا القرار في تقديري أسس لهذا التكدّس من الجثامين لانه لم يراع استثناء الحالات الخارجة عن شبهة فض الاعتصام، وساهم في هذا التكدس تكوين لجان التحقيق سواء التي اصدرها النائب العام ام مجلس الوزراء، اذا هي ايضا منعت دفن الجثث، وكذلك لجنة المفقودين واكملت لجان المقاومة الحلقة، حيث اقامت اعتصاماً كبيراً امام مستشفي التميز قالت ان الهدف منه حماية للجثث، لانها تظن ان هنالك تواطؤ لاخفاء جريمة فض الاعتصام، وقالت في بياناتها التي ظلت تصدرها بمهاجمة الاطباء الشرعين، وشككت في اشتراكهم في اللجان، بل وصفت النيابة بالضعف وهاجمت مدير عام وزارة الصحة، ثم قامت حمله اخري ضد مدير مشرحة ام درمان وصف فيها بالتخوين والتزوير والحق معه مدير ادارة هئية الطب الشرعي، ما دعي الاطباء الشرعين الي عقد مؤتمر صحفي وإعلان انسحابهم من اي لجنة لما وجوده من مضايقات تسببت في ارباكهم في اداء مهامهم..
بل امتد الامر الي ان يشهد موقع مدير هئية الطب الشرعي تغير مستمر كلما ارتفعت وتيرة الاحتجات السياسية.
ولم يسلم من هذه الحملة النائب العام نفسه حيث تعرض لحملات متواصلة بدأت من عهد النائب العام السابق الذي هاجموه لقيامه بواجبة في منع الذين استقدمتهم لجنة المفقودين من الخارج انتهاء بالنائب العام الحالي الذي يتعرض الان لهجوم بسبب اصداره قرار بدفن هذه الجثامين..
وبالطبع تحت وطأة هذه الظروف لم يكترث احد لالغاء قرارات هيئة الطب الشرعي بمنع دفن الجثث، ولم تتمكن النيابة من ان تقوم بدورها القانوني اذاء الجثث مجهولة الهوية، اذا اصبح الملف سياسياً باميتاز تستخدمه القوي السياسية ملف ضغط تحركه كلما قامت جهة بالتصدي لدفن هذه الجثامين، واصبحت تشكل عقبة في وجه اي لجنة شكلت لهذا الغرض بما فيها اللجنة التي شكلها مجلس السيادة
في ابريل 2022مةوهي لجنة عليا تضم في عضويتها كافة كل الجهات ذات الصله من وزارة العدل والصحة والشرطة والنائب العام وغيرها من الجهات
غرضها الاساسي دفن الجثامين المتراكمة في المشارح دراءً للاثار الصحية حسب ما جاء في قرار تشكيل اللجنة.
ولانهاء حالة الاربكاك ارى ان الحل يكمن في جعل الملف، ملف عدلي وقانوني وان تضلع النيابة بدورها وواجبها القانوني، اذا هي دون غيرها المسؤول عن هذا الملف، وهي تمتلك من الخبرة والمعرفة مع ادارة الطب الشرعي من انجاز هذا الملف وسيكون هذا بمثابة إعادة الملف للعمل المؤسسي دون ان تلقي عليه السياسة بظلالها .