مقالات

 مني ابوزيد تكتب : ظاهرةٌ لغويةٌ

مني ابوزيد تكتب : ظاهرةٌ لغويةٌ
“آخر العناوين البريئة في بلادنا كانت قبل اختراع الصحافة”.. محمد حسن علوان..!
احتفى العالم يوم أمس باليوم العالمي للغة العربية، وهي سانحة مُناسبة للوقوف عند الكاتب الصحفي الراحل “محمد حسنين هيكل” أحد الظواهر اللغوية في تاريخ الصحافة العربية..!
عاصر هيكل ثمانية رؤساء جمهورية تعاقبوا على مصر، وظل خلالها صحفي النظام وفارس الكلمة الإعلامية بلا مُنازع. وهو من حرّر أول كتاب ألّفه الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو الذي كتب خطاب تنحِّيه الشهير، وهو الذي أنشأ مركز الدراسات الاستراتيجية ومركز الدراسات الصحفية ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر..!
كتب “هيكل” مقدمات لأكثر من ثلاثين كتاباً لمؤلفين آخرين، وتناول أكثر من أربعين كتاباً سيرته الذاتية عبر مشواره الطويل. حاور الخميني والملك خوان كارلوس، والرئيس السوفيتي أندروبوف، والفيلد مارشال مونتجمري قائد معركة العلمين الشهيرة، والعالم ألبرت أينشتين، ورئيس وزراء الهند الأسبق جواهر لال نهرو، وإمبراطور إيران السابق الشاه محمد رضا بهلوي، ورجل الأعمال الأمريكي دافيد روكفلر..!

وقال عنه الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك “لا يوجد في مصر سوى ثلاثة عظماء: رمسيس، ناصر ومحمد حسنين هيكل”، وقال عنه الروائي الأمريكي إدوارد شيهان “إنه أقوى صحفي في العالم”. واعترف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان يوما بأنه “حريص كل الحرص على قراءة مقالات محمد حسنين هيكل في صحيفة الأهرام كل يوم جمعة”..!
العالم كله ناقش مصطلحات سياسية كثيرة أرساها “هيكل” بعد صبر على شرود المعاني وطول أنّاة في تطويع المفردات. يقول الراحل عن تجربته مع كتابة خطاب تنحِّي الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر “أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتها وغيّرت فيها وبدلت”. فاللغة بكل رحابتها اللفظية وثراء معانيها كانت سلاحه المهني ودرعه السياسي..!
آخر تصريحاته المثيرة للجدل كانت جملته الشهيرة “إذا لم ننتبه للحظة سنخرج من التاريخ”، والتي ملأت مصر وشغلت إعلامها، فقال كاتب بحجم مفيد فوزي إن فيها شكلا من أشكال المبالغة في التحذير وأرجع السبب إلى أن “هيكل” عنده قدرة هائلة على الترتيبات اللفظية، وصناعة الكلمة، بجُمل مُنتقاة لها إيقاعها الداوي الذي يأسرك ويؤثر بك وإن اختلفت معها..!
ويقدم د. محمود خليل تأصيلاً منهجياً لدقة “هيكل” اللفظية وحذره المنهجي قائلاً “كان هيكل مُحترفاً على كل المستويات: يتحدث باحترافية، ويدير حواراته باحترافية، ويعيش باحترافية، فعرف كيف يُحافظ على لياقته الصحية والذهنية لعقود طويلة كادت أن تكمل قرناً من الزمان. وهو كاتب يُجيد التخفي وراء اللغة. فاللغة التي هي عند البشر العاديين أداة للإفشاء، هي عنده أداة للتخفي والمناورة”..!

وقد كان هيكل بارعاً في النحت اللغوي القادر على ستر أوضاع، وحقائق أوجاع، وهو الصحفي الوحيد الذي يمتلك براءة اختراع كلمة “نكسة” في وصف ما حدث في يونيو 1967. كان ألم المصريين عنيفاً، وإحساسهم بالسقوط مدوياً، فتمخّض عقل “هيكل” عن هذه المفردة لوصف ما حدث، حتى لا تتعمّق الجراحات باستخدام كلمة “هزيمة”..!
فالإعلامي عند هيكل ظاهرة لغوية قبل أي شىءٍ، وهو يؤثر باللغة أكثر من أي أداة أخرى، حتى ولو كان تأثيره بإشاعة الخطأ، فقد أشاع هيكل خطأً لغوياً ساد الخطابات الصحفية والسياسية لمدة طويلة، هو مصطلح “القوتان الأعظم”، خلافاً لصحيح اللغة “القوتان العظميان”، وما أكثر ما تسكع هذا الخطأ على ألسنة الساسة والإعلاميين طيلة فترة الستينات والسبعينات..!
إلى هذه الدرجة بلغ تشبث شعب بأكمله بمفردات صحفي الأزمات وكاتب الأمة الذي كان “يسكن التاريخ أكثر مما يسكن الواقع”، والذي كان حاذقاً بدرجة كبيرة في تسكين الواقع في دواليب التاريخ الذي ظل هو يُشكِّل جزءاً منه في مصر لعقود متوالية. فهل يستمر التاريخ في إغفال بعض الحقائق السياسية التي تَخفَّى “هيكل” وراء اللغة – طوال عقود من الزمان – لكي يخفيها، أم يأتي يوم نشهد فيه إعادة إنتاج ظهورها في ثوب قشيب..؟!

 

munaabuzaid2@gmail.com

المصدر الصيحة

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى