منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق .. الأصناف والسُّلطات ..!
منى أبوزيد تكتب:..هناك فرق .. الأصناف والسُّلطات ..!
“الحرية هي الحق في أن تفعل ما يبيحه القانون”.. مونتسكيو..!*
ذات نهار ربيعي الملامح في سودان ما قبل الحرب “مطلع هذه الألفيه تحديداً” كنا نقف أمام بعض أصناف الأكل البلدي التي كانت من بوفيه دعوة على الغداء..!
معظم الحاضرات وقفن يومها حائرات أمام طبق كبير ملئ بلفائف الكسرة التي تم رصها بعناية على شكل هرم، وإناء ضخم تتكئ على حافته مغرفة أنيقة كانت غاطسةً حتى خصرها المائل في الملاح اللايوق ..!
بعد أن أخذَتْ كل واحدة منَّا حصتها من تلك الطرقات الملفوفة كمناشف الطائرات وسكبتْ فوقها بعض الملاح، نظرتُ إلى صحني فبدتْ لي لفَّة الكسرة وهي منبطحة على سطح الطبق مثل بشكير المطبخ الذي فقد قدرته على الامتصاص ..!
الملاح يتسرَّب من مسام الكسرة ويشق طريقه عبر فراغات الصحن في بطء واثق، والأصناف الأخرى تبدو كأرخبيل الجزر التي كان الملاح اللايوق يحدها من جميع الجهات..!
وهكذا أكلنا الكسرة والملاح بالملاعق، ولسان حالنا “يعمينا”، وقد كانت تلك “تقليعة” من ست البيت المغرمة بتطويع الأصناف المحليَّة المستعصية لقواعد البوفيهات الصارمة، لكنها تجاهلت بطبيعة الحال خصوصية الطقوس التي تناسب أكلات المطبخ السوداني عادةً ..!
منظر الكسرة بالملاح في صحن الكوكتيل، والذي لم يكن شهياً – بل يشبه فوطة غارقة في سائل تنظيف – جسِّد بصدق حالة الحيرة والتخبط التي يعيشها المرء عندما يحاول المزج بين بساطة التقاليد المحلية وقواعد الإتيكيت المستوردة ..!
في تلك الأيام من عمر السودان سألت صحيفة الشرق الأوسط مرشح الحركة الشعبية لمنصب والي جنوب كردفان حينها – الفريق عبد العزيز الحلو – عن مدى رضاه بما يتعلق بجنوب كردفان في بنود اتفاقية السلام، فقال إنها – أي الاتفاقية – لم تلب رغبات أي طرف بالكامل، لكنها وفرت المشورة الشعبية كآلية تمكن المواطنين من متابعة النضال عبر الوسائل السلمية ..!
وعندما سئل عن خلافات جنوب كردفان الثقافية مع المركز، قال إن الشمال – مطلقاً – ليس وحدة واحدة، وليس جنوب كردفان وحدها، وأن ما يفرق في الشمال هو أكثر مما يوحد، وبالتالي لا مناص من إعادة هيكلة السلطة، وإنهاء تلك المركزية القابضة، من أجل ضمان استمرار الشمال موحدا، وإلا سيكون مصيره مثل مصير يوغوسلافيا ..!
يوغسلافيا السابقة – كما تعلم – تقع في منطقة البلقان ذات التنوع العرقي والتنافر الطائفي، الأمر الذي نتج عنه مصطلح البلقنة الشهير، والذي أصبح يعني في قواميس السياسة “التنوع العرقي المتنافر والمائل إلى الانفصال”، هي الحرب الأهلية إذن في حال وقوع الانفصال بحسب نبوءة سياسية عمرها بضعة عشر عاماً، كان الحلو مصدرها ..!
اضطراب يوغسلافيا السابقة وتفكك عراها كان سببه الرئيس هو محاولة جمع تلك الأعراق والأعراف المتنافرة عنوةً مع استئثار فكر سياسي – بعينه- بالسلطة..!
إذن العبرة تقول أن دولة متعددة الأعراق مثل هذا السودان تحتاج لضمان تماسكها بعد انتهاء هذه الحرب أن يزاوج نظام حكمها بين الديموقراطية والفيدرالية “أن يزاوج بينهما لا أن يزج بهما”. وبينما وقعت يوغسلافيا في مطبات سوء التطبيق ضربت سويسرا والهند أنجح الأمثلة في ذلك..!
بعد تعاقب الأحداث والأزمان على عراقة الكسرة والملاح وتجذر القبلية – واندلاع ثورة غذائية وقيام حرب أهلية – الفيدرالية هي الحل، لا بد من فصل بعض الأصناف والسُلطَات!.
munaabuzaid2@gmail.com
المصدر : صحيفة الكرامة