الثقافية

معلمي الكلب

القاص والكاتب: عمر الصايم

فِي اللحظة التي بدأ فيها الكلبُ نبشَ جذورَ النبْتَةِ بمخالبِهِ، شعرْتُ بشيءٍ غريبٍ يُفْعَل! رأيْتُه يقرضُها بأنيابِهِ بصعوبةٍ ليس كما تمضغُ الأغنامُ، يزدردُ شرائحَهَا بِنَهَمٍ. تذكَّرْتُ أخي حِين نَهَانِي عن ملامستِهَا؛ لأنَّها ستصنعُ لِي حَكَّةً مؤلمة إِذا ما احتدمت مع بشرةِ بَنِي الإبنسان، مِن يومها صرتُ أخشى بَصَلَ الكلابِ، وأَتَجَنَّبُه مِن بين كُلِّ النباتاتِ التي تنمو فِي بَرِيَّةِ المدينة. لم أعرفْ سِرَّ تلك البصلة، وقدرتِهَا السِّحرِيَّة على شفاء كلبِي الذي كاد أنْ يفقدَ روحَهُ السَّابِعة تحت ضغط الهِزَال والمرض. صِرْتُ أقوده كُلّ يومٍ للبرِيّة المُخْضَرَّة، وأجلسُ بحيثُ أراه يلتهمُ بصلته ويتعافَى، صار أكثرُ شراهةً وانتقائية لطعامِهِ.
ماتَ الكلبُ بعد أنْ ناهزَ عُمرَهُ الافتراضِيّ، وأَنْسَلَ إِناثه جِراء ودودة، عارفة بأسرارِ الطب الكلبِيّ. ماتَ فِي مُنْتَهَى صحتِهِ ووسامتِهِ، أغمض عينيه مُتكئاً على الجدار بجسدِهِ الضخم، تبدو الراحة على شفتيه وهو يغادر الكوكب الذي طَالَمَا مَنَحَهُ فضاءً للأكلِ والنُّبَاح، والتَّبَوُّل بجسارةٍ. كنتُ ساعتها قد بلغتُ مرحلة استنبات شاربي؛ لم يزل فِي عمري الافتراضي الكثير لأفعلَهُ؛ لذا حزنتُ عليه حزنًا باردًا، واسيتُ نفسي بأنَّه قد هرم، وآن له أنْ يرقدَ بسلامٍ مع الكلاب العظيمة فِي (كلبيين) وأنْ يقضي وطره مِن إناثٍ أُخريات أبهى جمالًا وأكثر رفاهية! كنتُ مشغولًا بنفسي، مسارات شاربي، قَصَّة شعري، وحسناء بشرِيَّة قد تلوحُ فِي فضائي؛ عليَّ أنْ أعدَّ لها فِخَاخَ الرباطِ المُقَدَّسِ.
أَصَرَّتْ أُمِّي أنْ أدرسَ الطب البشرِيّ. كنتُ أَمْيَل للطبِّ البيطرِيّ، تشغلُنِي معارفُ الحيوانِ، وأتصوَّرُ أنَّنِي في يوم ما سأحللُ أدمغتَهَا، وأَسْتَلُّ منها المعارفَ القَارَة فِي أعماقٍ بعيدة. كعادة الأمهاتِ الحادباتِ على صياغة الحياة للصغار حققتْ أُمِّي الانتصار على إرادتي اليافعة، دَفَعَتْ بِي إِلى أجسادِ البشر ومعارفهم المصنوعة بعنايةٍ. أوَّل يومٍ لِي فِي المشرحة أصابني غثيانٌ، ثُمَّ دَوَارٌ عنيفٌ أطاحَ بِي أرضًا، نفحوا أنفِي ببصلِ الإنسان؛ فعطستُ مستيقظًا مِن هوة التلاشي إِلى سُخْرِيَات الزملاءِ والزميلاتِ، وهمزاتهم الهازئة. لشيءٍ فِي تركيبتي المُعَانِدَة قررْتُ أنْ أتفوَّقَ عليهم، أنْ أتقدَّم دفْعَتي رغم انعدام مَحَبَّتِي للدراسة، وقد فعلتُ ذلك ببساطة مَرَدَّها لقدرتي على التحصيل.
لم يعرفْ أحدُهم بهوايتي السِّرِيَّة فِي استكشافِ النباتاتِ، وعلاقتي بالطب الحيوانِيّ العريق.. أسعفتْنِي النباتات فِي إِنقاذ أُمِّي مِن موتٍ مُحَقَّق لأكثر مِن مَرَّة، آخرها حين أصرَّ الطبيبُ على إِدخال أنبوبَ تغذية إِلى جوفِهَا؛ فوقفتُ بشدة ضِدَّ رأيه، أعطيتُها مِمَّا تُنْبِتُ الأرضُ؛ فاستفاقتْ وقابلتْ الموتَ وهي شَبِعة مبتسمة.. أتَصَوَّر أنها قابلتْ كلبي يرشح بَوْلَهُ على أَعْمِدَة الأبدِيَّة، انتهرتُه قائلة ” لقد أضعتَ ابني؛ بسببك صار أفشل طبيب”
هزَّ زيله بلا مُبالاةٍ، لم يَلْعَقْ شيئًا قبل أنْ يتحدَّث كعادتِهِ فِي الحياةِ، بل قالَ لها ” بسببي ابنك سيعيش طويلًا! تَعَلَّم مِنِّي حكمة الحياة”
نسيتْ أُمِّي اسمه، نسيتْ صوتَ نُبَاحِه الأجش عندما يطرقُ اللصوص دربَ بيتنا. تذكرتْنِي في غمرة اهتماماتها بالنعيم؛ لابد أَنَّنِي لم أزل فِي ناظريها ذلك الصغير، لم تضع اعتبارًا لنبوءة الكلب، ولا حتى بابتسامة باهتة. فِي اللحظة التي فارقتْ كلبي مُتَجِهَّةً نحو بحيرة تُعيدُ المسناتِ صبايا كنتُ أُعالج نفسي مِن آلام الكُلَي بخليط مِن أعشابٍ آسيوية وأفريقية بخلطها مع عصارة بصل الكلاب، لولا هذه الخلطة؛ لَكُنْتُ مرميًّا فِي قبري كما تَكَهَّنَ الأطباءُ المُحْدَثُون. طوال سنواتي بالجامعة كنتُ مُتذمرًا مِن أنظمة الصحة وجيوشها ومؤسساتها، مستشفياتٌ شاهقة على أجساد البشر، ملائكةُ رحمةٍ وأطباء يؤدون قسمًا سرعان ما ينسونه، ندوات وترجمات، بحوث وخرائط تنتهي إِلى خزانة بنك ما، يتحكمُ فيه رجلٌ لا نَراه.. سخطي على كُلِّ شيءٍ جعلَ مِنِّي طبيبًا فاشلًا، نعم حزتُ على الدرجةِ الأولى فِي الفشل، غادرتُ الحقل الطبِيّ بعد سنوات مِنْ زواجي مِن طبيبة. لم تكن زوجتي سعيدة بما أفعلُ، اعتبرتْنِي مجنونًا ساقه إليها حظها البائس! اعتبرْتُها فريسةَ الضلالاتِ؛ وافترقنا. أخذتُ أطفالنا معها حيثُ زعمتْ أَنَّها الأصلح لتربيتهم، لم أجادلها.. سَلَّمْتُها ما تريدُ وانصرفتُ بعيدًا عن رائحة المُطَهِّرَات، والأَسِرَّة البيضاء. ذهبتُ لأعيش لنفسي، وأُجَرِّبُ نظرياتي فِي الحياة. بعد سنوات ماتت زوجتي متأثرة بسرطان الثدي، أَكَلَها حتى قضي عليها، وهي تتلوى مِن العلاج، حزنتُ عليها، يومًا ما كان ثديها نهدًا نابضًا بدفءِ الحياة، ولكنها لم تلتمسْ حرارتَهُ فِي قلبِهَا؛ فانطفأ كبرقٍ كاذب. عَوَّلْتُ على نفسي في العنايةِ بأبنائي، لم أتحكم فِي مصائرِهِم واختياراتهم كما فعلتْ بِي أُمِّي عليها الأَبَدِيَّات! نهضوا كجراءٍ مشاغبة، وتمتعوا بفائق القدرة على الحركةِ، لحدٍّ ما كنتُ أعتقدُ أنَّ حاسة شمهم أقوى مِن غيرهم. لم يتعلَّقْ أحدهم بحيوانٍ مِمَّا أثارَ دهشتي! كبروا فِي عالم الشركات، وجالُوا العالمَ على متنِ السفنِ والطائراتِ، بينما أنا أخسر عُمْرِي وتتضاءل فُرَصِي فِي البقاء.
اليوم أكملْتُ عامِي الثانِي بعد المائة، أحسُّ أنَّ جسدي يفرُّ مِنِّي، أَنَّنِي أوشكتُ على اللحاق بكلبي العارف بأسرارِ الرحيل، وبأُمِّي الغارِقَة فِي بُحيرة الصبايا. أحبُّ اللقاء هناك، لكن شيئًا ما ينخرُ مكاني؛ ليغرس مخالبي فِي المكان، رُبَّمَا أنا باقٍ؛ لأحكي قصة كلبي لحفيدِي، أحكي له عن بصل الكلاب، عن البرية وكائناتها. يرمق وجهي بدهشةٍ، ويغطسُ فِي تجاعيدي، يفكر هل أنا حقًّا جَدّهُ أَمْ كائن مِن كوكبٍ آخر؟!

العهد اونلاين

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى