مقالات

محمد عثمان النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (9 من 13) المدن الذكية والنقل الذكي

محمد عثمان النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (9 من 13) المدن الذكية والنقل الذكي

 

 

 

لم تعد المدن الحديثة مجرد تجمعات سكانية وبنايات وطرق، بل أصبحت أنظمة حية تتنفس البيانات وتتحرك بالذكاء الاصطناعي، وتبني قراراتها على معرفة لحظية بكل ما يجري داخلها. المدينة الذكية ليست مدينة أكثر أجهزة، بل مدينة تعمل بعقل واحد، يربط بين الكهرباء والمياه والمواصلات والنفايات والأمن والصحة، ويجعلها منظومة منسجمة بدل أن تكون كيانات متناثرة. وفي عالم يتسارع إيقاعه، لم يعد بوسع المدن أن تعيش بعقل القرن الماضي، حيث تُدار بالإحساس والتخمين، لا بالبيانات والمراقبة والتحليل.

فالمدينة الذكية تبدأ من شيء بسيط: رؤية كاملة لما يجري في شوارعها. كاميرات ترصد الحركة بلا توقف، حساسات تقيس الازدحام، أنظمة تعرف أماكن توقف السيارات، ومنصات تتابع مستويات الإضاءة في الشوارع، وخوارزميات تدير الإشارات الضوئية بحيث تخفف الازدحام بدل أن تصنعه. في هذه المدن، لا تترك الأمور للمصادفة، بل تُدار كأنها آلة دقيقة تعمل بلا توقف.

والنقل الذكي هو قلب المدينة الحديثة. فبدل أن يعتمد السائق على مزاجه أو على تخمينه، يعتمد على نظام يعرف في أي طريق سيجد ازدحامًا، وأي طريق سيصل به في أسرع وقت، وكيف يتجنب الحوادث أو مناطق الخطر. وتستطيع المدينة الذكية أن تضبط حركة المرور تلقائيًا، فترفع الإشارة هنا، وتخفضها هناك، وتفتح حارات إضافية وقت الذروة، وتوزع الحركة عبر عدة مسارات. النتيجة: وقت أقل في الازدحام، وقود أقل مهدور، أعصاب أقل توتراً، وإنتاجية أعلى.

وفي النقل العام، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث ثورة حقيقية. فالحافلات تتحرك وفق بيانات دقيقة تحدد خطوط الضغط، وساعات الذروة، وعدد الركاب، بينما يتم تتبعها لحظة بلحظة، فيعرف المواطن أين وصلت، ومتى تصل، وكم ستتأخر. ويمكن للمدينة أن تعيد رسم طرقها بناءً على بيانات الاستخدام الفعلية، لا على خرائط قديمة أو توقعات غير دقيقة. أما في المدن الكبيرة، فالنقل الذكي يصبح شرطًا للحياة اليومية، وليس رفاهية.

وفي السودان، حيث تعاني المدن من اختناق مروري، وضعف في البنية التحتية، وغياب في التخطيط الآني، يمكن للتحول إلى المدن الذكية أن يغير المشهد كليًا. فحتى مع محدودية الموارد، يمكن للأنظمة الذكية أن تمنحنا ما نفتقده: الانضباط. فمجرد تركيب حساسات في الطرق الرئيسية، وربطها بمركز تحكم، يمكن أن يخفض الازدحام بنسبة كبيرة. ومجرد الرقمنة في إدارة المواقف يمكن أن يحل جزءًا مهمًا من المشكلة. ومجرد تتبع الشاحنات يقلل الحوادث. الأنظمة الذكية ليست ترفًا، بل علاجًا سريعًا لكثير من التشوهات الحضرية.

وتظهر في هذا المجال شركات صغيرة قادرة على صنع فرق كبير: شركات لرسم الخرائط المحلية، وشركات لإدارة المواقف، وشركات لتتبع المركبات، وأخرى لتحليل الفيديو، وشركات لبناء تطبيقات النقل المشترك، ومنصات للتأجير الذكي، وتطبيقات للدرّاجات والسكوترات. هذه الشركات، حين تعمل في بيئة متماسكة، يمكن أن تصنع قطاع نقل حديثًا، يحل محل الفوضى التي نراها اليوم.

والمدن الذكية ليست أجهزة وكاميرات فقط، بل طريقة تفكير: مدينة تعرف كيف تستهلك طاقتها، وكيف توزع مياهها، وكيف ترصد أعطالها قبل وقوعها، وكيف تنظف نفاياتها بذكاء، وكيف توفر خدمات رقمية لكل سكانها دون تمييز. مدينة تعرف احتياجات الناس قبل أن يطلبوها، وتخطط للمستقبل استنادًا إلى بيانات حقيقية، لا إلى تقديرات عامة.

ولا يتحقق هذا التحول دون منصة بيانات مركزية، تكون قلب المدينة، تجمع المعلومات من كل القطاعات، وتحللها، وتُصدر قرارات آلية أو شبه آلية لحل المشكلات. وفي هذا النموذج تصبح المدينة “كائنًا واعيًا” يتحرك باستجابة سريعة، ويتطور باستمرار، ويقلل الهدر، ويرفع جودة الحياة.

وما يميز المدن الذكية أنها تمنح فرصة ذهبية للشباب، إذ تفتح أبوابًا جديدة للعمل: تحليل البيانات الحضرية، تصميم التطبيقات، إدارة الأنظمة، صيانة أجهزة الاستشعار، وبناء الحلول المحلية. وهكذا تصبح المدينة نفسها مصنعًا للوظائف، لا مجرد مكان للسكن.

إن بناء مدينة ذكية ليس ترفًا حضاريًا، بل هو متطلب أساسي لمدينة تريد أن تعيش القرن الحادي والعشرين. فالمدن اليوم تتنافس، كما تتنافس الدول، على أفضلية العيش، وسهولة الحركة، ونوعية الهواء، ومستوى الخدمات، وجمال التخطيط، وحماية البيئة. والمدن التي ترفض أن تتغير ستجد نفسها خارج هذا السباق، مهما كانت مواردها.

وهذا المقال يأتي خطوة تاسعة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا نعيد فيها تعريف علاقة السودان بالرقمنة، ونوضح كيف يمكن للتقنية أن تعالج مشكلات المدن المزمنة، وأن تفتح أبوابًا لنهضة حضرية طال انتظارها.

 

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى