مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..النهضة… هدم وبناء شاملان متوازيان

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..النهضة… هدم وبناء شاملان متوازيان

 

لم يحدث في تاريخ الأمم أن ارتفعت دولة لأنها أصلحت جانبًا واحدًا وأهملت سائر الجوانب، ولا وُجدت نهضة قامت على جهد منفرد أو إصلاح جزئي مهما بدا لامعًا. فالرقيّ لا يتحقق بلمسة موضعية، ولا بالاشتغال على محور واحد وترك بقية المحاور تتآكل، بل هو فعلٌ شامل يتقدم فيه البناء من كل الجهات، ويجري فيه الهدم المنضبط لكل ما يعيق الحركة. فالدولة لا تنهض بنجاح قطاع وتعثر قطاع، ولا تستقيم بتنظيم ملف وإهمال ملف، ولا تقوى بتحرير الاقتصاد بينما تترك الإدارة فوضى، أو برقمنة الدولة بينما يظل القانون ضعيفًا، أو بمكافحة المخدرات بينما تنمو البطالة وتفلت الجبايات. النهضة كلٌّ لا يتجزأ، ومشروع لا يقبل التقطيع ولا التأجيل ولا الإصلاح المتدرج البطيء.

فالنهضة لا تشبه سقي شجرةٍ يصل إليها الماء من أي موضع، بل تشبه صناعة سيارة؛ لا يمكن أن تكتمل وتتحرك إذا اكتمل محركها وبقي نظام المكابح معطّلًا، أو صلحت الإلكترونيات بينما ظلت العجلات بلا اتزان، أو اكتمل الهيكل وبقيت منظومة الوقود ناقصة. فالسيارة لا تسير إذا اختل فيها جزء واحد، مهما كَمُلَت بقية الأجزاء. وكذلك الدول؛ فالإصلاح الجزئي — مهما حسُن — يظل عاجزًا عن حمل مشروع دولة، لأن البناء الحقيقي يحتاج إلى تكاملٍ في الجهود وتزامنٍ في المحاور؛ يُقام فيه الإيجابي جنبًا إلى جنب، ويُزال فيه السلبي كتفًا بكتف. فإذا أصلحت دولةٌ قطاعًا وأهملت آخر، اختل التوازن، وسقط البناء قبل أن يقف.

ومن هذا الفهم العميق يُفهم لماذا لا يكفي تحرير سعر الصرف دون رقمنة كاملة للجبايات، ولا يكفي فتح الأسواق دون حوكمة تمنع الاحتكار، ولا يكفي جذب الاستثمار دون قضاء سريع ونزيه، ولا تكفي مكافحة المخدرات دون خلق فرص عمل وبدائل اقتصادية للشباب، ولا تنفع الرقمنة إذا بقي الموظف قادرًا على العرقلة، ولا تنجح مكافحة التهريب إن لم تُضبط الحدود رقميًا، ولا يستوي تحرير الاستثمار إذا بقيت الإجراءات معطوبة والرسوم عشوائية. فالإصلاح الاقتصادي حين يُترك معزولًا يصبح هشًّا، أما حين يُقرن بالحوكمة والرقمنة وسيادة القانون، فإنه يتحول إلى محرّك نهضة ورافعة استقرار.

فالتحرير الاقتصادي الشامل وحده لا يصنع النهضة، لكنه يصبح محرّكها الأساسي حين يُقترن بسيادة القانون، والرقمنة، وتوحيد الجبايات، وإلغاء الفوضى الإدارية، وتفعيل القضاء، وملاحقة شبكات الجريمة، وإرساء الانضباط في الخدمة المدنية. فالسوق الحرّ لا يعمل في فراغ، بل يعمل داخل دولة قوية، واضحة القوانين، ثابتة السياسات، قادرة على ضبط حدودها ومنع الفساد وتسهيل الإجراءات. دولة يعرف فيها المستثمر ماذا ينتظره، ويعرف الموظف أنه مراقَب أداءً لا مزاجًا، وأن التقدم يُنال بالكفاءة لا بالواسطة، وأن الرقمنة تجعل كل حركة مرصودة، وكل تأخير مكشوفًا، وكل تسيّب مستحيلاً.

وكذلك تُفهم محاربة المخدرات لا كملف أمني منعزل، بل كعملية شاملة تشترك فيها كل أجهزة الدولة: اقتصاد يولّد الدخل، ومجتمع يبني المناعة القيمية، ومدارس ومساجد تُحصّن الوعي، وإعلام يكشف الشبكات ويُسقِط الأساطير، وتشريعات لا تعرف التردد ولا المساومة. فالمخدرات تنمو في فراغ الدولة، وكلما اتسع ذلك الفراغ اتسعت شبكات الجريمة المنظمة التي لا تراقب فقط الفرص الاقتصادية، بل تستثمر في انهيارها. فإذا امتلأ الفضاء بالإنتاج والعمل والقانون والرقمنة والانضباط، انحسر خطرها كما تنحسر المستنقعات حين تتدفق المياه النظيفة.

وهكذا يتبين أن التسيب الوظيفي ليس مشكلة حضور وانصراف، بل خلل في بيئة القوانين، وفي تحرير الاقتصاد، وفي كفاءة المنظومة الإدارية، وفي غياب الرقمنة التي تجعل الإنتاجية مرئية في الزمن الحقيقي، وتجعل المقصر مكشوفًا، والمجتهد ظاهرًا، والعمل العام قائمًا على الحقائق لا على الانطباعات. فإذا اكتمل التحرير، وتمّ توحيد الجبايات، وارتفع دخل الدولة، وتحررت فرص العمل، أصبحت الوظيفة باب تنافس لا مأوى للكسل، وأصبح الانضباط ثقافة عامة، وعدالة الأداء معيارًا لا يمكن الالتفاف حوله.

إن كثيرًا من الأمم التي نهضت — من رواندا إلى سنغافورة، ومن ماليزيا إلى بعض التجارب الأوروبية والآسيوية — لم تنهض لأنها بدأت من ظروف أفضل منا، بل لأنها أدركت أن الإصلاح الحقيقي لا يكون خطًا واحدًا، بل خطوطًا متوازية تتحرك في وقت واحد: تحرير اقتصادي، وقانون صارم، ورقمنة كاملة، وضبط للحدود، وتطهير للإدارة، ومشروع وطني واضح يربط الناس بمصالحهم ويشعل فيهم روح التقدم. هكذا تنمو الأمم، وهكذا تخرج من دوائر الفقر والصراع إلى فضاءات النمو والاستقرار.

ولهذا كله يصبح السؤال الأهم ليس: “من أين نبدأ؟” بل: “هل نبدأ بالطريقة الصحيحة؟” والطريقة الصحيحة هي أن يتحرك السودان في إصلاح شامل، يفتح الأسواق ويحرر العملة، وفي اللحظة نفسها يبسط هيبة الدولة، ويُفعل القانون، ويجرّم التسيب، ويلاحق المخدرات والتهريب بلا هوادة، ويوحّد الجبايات، ويرقمن الإدارة، ويبني بيئة استثمار مفتوحة وعادلة وشفافة. فلا محور ينتظر الآخر، ولا إصلاح يتأجل حتى يكتمل ما حوله، بل كلها تتحرك كتروس متشابكة تنقل الدولة من الجمود إلى الحركة.

فالنهضة ليست مشروعًا قطاعيًا، ولا خطة وزارة، ولا تحسين ملف هنا أو هناك، بل هي مشروع دولة تتقدم بجسدها كله؛ تُقيم البناء من كل الجهات، وتزيل العطب من كل الجهات، حتى تقوم على ساقين ثابتتين لا تهزهما الأزمات ولا تسقط بهما الانقطاعات. وهكذا تكون النهضة المتوازية — في البناء والهدم معًا — هي الطريق الوحيد لقيام السودان من كبوته، وعبوره إلى المستقبل الذي يستحقه، مستقبل يصنعه العمل والإرادة والرؤية الشاملة لا الإجراءات المتفرقة ولا الإصلاحات الناقصة.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى