محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (6 من 10)الهوية الخفية… حين تحكم الشفرةُ الشفرة

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما الـDNA؟ (6 من 10)الهوية الخفية… حين تحكم الشفرةُ الشفرة
كلما توغّل العلم في أعماق الخلية ظنّ أنه بلغ نهايتها، فإذا به يكتشف طبقة أخرى تحت طبقة، ونظامًا فوق نظام، وهداية فوق هداية. فقد كان العلماء يظنون أن الـDNA وحده هو الذي يحكم حياة الخلية، وأن الحروف الأربع تكفي لشرح الوجود، ثم ظهر لهم أن فوق هذا النص الجيني نظامًا آخر، وأن فوق الشفرة شفرةً تنظيميّة، تُسمّى المعلومات فوق الجينية — Epigenetics: منظومة لا تغيّر حرفًا من النص الأصلي، لكنها تقرر أي الجينات تُقرأ وأيها تُكتم، ومتى يبدأ التنفيذ ومتى يُمنع. إنها ليست كتابة جديدة، بل نظام إدارة ورقابة يشرف على الشفرة، ويوجّه عملها، ويمسك بميزان حياة الخلية دون أن يمسّ نصّها.
وهكذا يتبيّن أن الحياة ليست نصًا واحدًا، بل مستويين متكاملين:
مستوى الشفرة الوراثية (DNA) الذي يحوي التعليمات،
ومستوى التنظيم فوق الجيني (Epigenetics) الذي يحوي الإدارة والضبط والتوجيه.
وهذا وحده يهدم منطق الصدفة العمياء؛ فلو افترضنا جدلًا أن الصدفة كوّنت النص الأول، فكيف تنشئ صدفة أخرى نظامًا أعلى يتحكم فيه، ويمنع فوضاه، ويضبط قراءته؟ وكيف يمكن لعشوائية أن تُنتج آلية تكبح العشوائية نفسها؟ إن وجود هذا المستوى التنظيمي الفوقي دليل على أن الخلق تمّ بتقديرين: تقدير في النص، وتقدير في إدارته.
ولولا هذا النظام الفوقي لما اختلفت خلايا الجسد. فجميع خلايا الإنسان تحمل النص الوراثي ذاته، لكن خلية الدماغ لا تتحول إلى خلية كبد، وخلية القلب لا تصير خلية جلد؛ لأن الخلية لا تُشغّل إلا الجينات المناسبة لوظيفتها. ففي خلايا الدماغ تُفعَّل جينات الإشارات العصبية، وتُكتم جينات الهضم والبناء العظمي، بينما يحدث العكس في خلايا الكبد والعظم والجلد. هذا التمايز لا يصنعه اختلاف في الشفرة، بل اختلاف في طريقة قراءة الشفرة. كأن كل خلية تحمل نظام تعريف داخليًا يحدد دورها وحدودها، ويحفظ لها «هوية» لا تختلط ولا تضيع.
ثم يأتي السؤال الأعجب:
كيف تعرف الخلية موضعها داخل الجسد؟
ولماذا لا تتجاوز حدودها؟
ولماذا لا تزاحم جاراتها أو تغتصب وظيفة غيرها؟
في داخل الجسد شبكة دقيقة من الإشارات التنظيمية تمنع الخلايا من تجاوز مواقعها. فالخلية التي تقترب من حدود غيرها تستقبل إشارات توقف، والخلية التي تحاول الانقسام في موضع غير مناسب تتلقى أوامر كبح صارمة، فإذا لم تلتزم — وهو نادر ولا يحدث إلا في حال المرض — تدخّلت منظومة المناعة للتخلّص منها، حمايةً لبنية الجسد ككل.
وهذا هو سرّ تماسك الجسد:
تمييز الذات من غير الذات،
وضبط الحدود،
ومنع التعدّي بين الخلايا.
ولو تعطّل هذا النظام لانقلب الجسد على نفسه، فإمّا مرض مناعي ذاتي يهاجم فيه الجسد خلاياه، أو سرطان تتمرد فيه بعض الخلايا على حدودها، وتكسر إشارات الإيقاف، وتنسى أن وجودها محكوم بمنظومة أوسع منها.
وهكذا نفهم أن الهداية في الخلق ليست هداية الوظيفة فحسب، بل هداية المكان، والحدود، والسلوك. وهذا المعنى العميق يشير إليه قوله تعالى:
﴿ الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾
فقد أعطى الخالق كل خلية خلقها: شكلها، ووظيفتها، ومكانها، وحدودها، ثم هداها إلى أن تعرف نفسها، وتعرف غيرها، وتعرف موضعها داخل النظام الكلي.
وتتجلّى عظمة التنظيم فوق الجيني حين ندرك أنه لا يخضع للشفرة وحدها، بل يتأثر بالبيئة المحيطة: بالغذاء، والضوء، والحركة، والضغط النفسي، والحالات العصبية والهرمونية المصاحبة للمشاعر الإنسانية كالخوف والطمأنينة. فحياة الإنسان النفسية والبيئية ترسل إشارات دقيقة تُنشّط جينات وتُكتم أخرى، في تفاعل يبيّن أن الإنسان ليس جسدًا فقط، بل كيانًا تتداخل فيه المادة والنفس في توجيه السلوك الخلوي.
ومع كل هذا الإعجاز، تظل الخلية ملتزمة بهويتها:
لا تتعدى وظيفتها،
ولا تزاحم غيرها،
ولا تعمل خارج نطاقها.
وهذا الدرس لا يخص الخلايا وحدها، بل يخص المجتمعات كذلك. فالمجتمع الذي لا تُعرف فيه الأدوار، ولا تُحترم الحدود، يتحول إلى فوضى، كما يتحول الجسد إلى مرض حين تتعدّى الخلايا مواضعها. أما النظام الذي يعرف فيه كل جزء حدّه ووظيفته، فهو كالجسد السليم: تناغم بلا صراع، وتنظيم بلا قهر، وميزان لا يختل.
وهكذا، كلما ارتقى العلم طبقة في فهم الخلق، وجد وراءها طبقة أخرى، وكلما ظنّ أنه أحاط بالحياة، اكتشف أنها أعمق مما تخيّل. وحين قال القرآن:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
لم يكن يصف ظاهرة علمية عابرة، بل سنّة كونية مستمرة: سنّة الكشف المتدرّج، حتى يشهد العلم نفسه أن الخلق إتقان من أوله إلى آخره، وأن «الحق» ليس رأيًا، بل حقيقة تتجلّى في الذرّة والخلية والشفرة.
وفي الجزء القادم (7 من 10)…
سنرى كيف تتخاطب الخلايا معًا، وكيف تبني شبكات مذهلة من الإشارات، وكيف يعمل الجسد ككيان واحد رغم أنه يتكوّن من تريليونات الخلايا. إنها اللغة الخفية التي تتكلم بها الحياة دون صوت… والآية التي لم تُقرأ كاملة بعد.





