محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الإسلام والعلمانية

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..الإسلام والعلمانية
لم يعرف التاريخ لحظة اشتدت فيها حيرة البشرية حول صلاح الحكم كما كانت قبيل ظهور الإسلام، في زمن اتسعت فيه المدن، وتداخلت فيه الشعوب، وتشابكت المصالح، واحتاج الناس إلى منظومات تضبط العلاقات وتكبح الفوضى. كانت أنظمة الحكم في العالم القديم مختلفة في الشكل، لكنها متقاربة في الجوهر؛ ظلمٌ كثيرٌ وعدلٌ قليل، وطبقات تُقدَّس وأخرى تُسحق، وامرأة بلا حقوق معتبرة، وقضاء يختلط فيه الدين بالسلطة، وأخلاق تتراجع تحت ضغط الخرافات والوثنيات.
ففي فارس الساسانية سادت طبقية خانقة يعلو فيها أهل الامتياز من الكهان والنبلاء، وتُعامل المرأة — في الغالب — بوصفها جزءًا من المتاع، وتُستعمل العقوبات القاسية في القضاء، وتغلف الأساطير مساحات واسعة من الحياة العامة. وفي الإمبراطورية البيزنطية التقت سلطة القيصر بسلطة الكنيسة في نظام يضيّق على المخالف ويقيّد حرية الفكر في سياقات تاريخية معلومة. وفي الهند كانت الطبقات الصارمة — من “الآلهي” إلى “المنبوذ” — تجعل الإنسان أسير موقعه الاجتماعي. وفي الصين برز حكم مركزي قوي يقوم على منظومات طقسية وفلسفات وضعية مع حضور عقوبات شديدة. أما أوروبا الشمالية فكانت تعيش — في ذلك الزمن — أنماطًا بدائية من القانون، تتقاذفها النزاعات
القبلية والأساطير، وتغيب عنها ثقافة النظافة إلى حدٍّ مذهل؛ حتى إن بعض الكنائس كانت تنظر إلى الاستحمام بوصفه مثيرًا للشهوة، وتربط الطهارة بطقوس التعميد لا بتنظيف الجسد. وأما الجزيرة العربية فكانت — رغم ما فيها من مكارم كالشجاعة والكرم وحماية الجار — تفتقر إلى دولة جامعة، وقضاء مستقل، ومنظومة قيم تستوعب الجميع، وكان فيها وأد البنات، والثأر، والعصبية، والغارات.
ثم جاء الإسلام، ففعل ما لم تفعله حضارة قبله؛ جعل الإنسان محورًا للتشريع: فردًا له حرية ومسؤولية، وروحًا لها كرامة، وعقلًا له مكانة، وجسدًا له حق، وأسرة لها حرمة، ومجتمعًا له تماسك، ودولة لها مقصد. قدّم الإسلام منظومة تجمع ما عجزت عنه الفلسفات: حرية لا تتحول فوضى، وقانون لا يصبح قهرًا، وأخلاق ترتبط بالضمير، وضمير يرتبط بالله. رفع مكانة المرأة ومنحها حق التملك والبيع والشراء والإرث بعد أن كانت — في كثير من الحضارات — تُباع وتُشترى، ومنع وأد البنات، وأبطل عصبية الدم، ونقل الرقيق من كونه سلعة إلى إنسان له كرامة، وفتح أبواب
العتق الواسعة. وجعل القضاء مستقلًا لا سلطان لحاكم على قاضيه، وسوّى بين العربي والأعجمي، والقوي والضعيف، والذكر والأنثى في أصل الكرامة والمسؤولية، وجعل القصاص نظامًا يمنع الثأر، ووضع منظومة أخلاقية تُربي على الصدق والأمانة والعفة، وجعل الطهارة والنظافة عبادة يومية في وقت كانت أوروبا — في سياقات تاريخية معينة — بعيدة عن هذه الثقافة.
ومن خصائص الحكم في الإسلام أنه لم يفرض شكلًا واحدًا للدولة، بل جعل الشورى أساسًا، والعدل مقصدًا، والأمانة شرطًا، وسيادة الحق فوق سيادة الأشخاص. ومن هنا يمكن للأمة أن تتواضع — ضمن الإطار الكلي للشريعة — على ما تشاء من وسائل لتنظيم الحكم وتداول السلطة، سواء عبر أحزاب أو برامج أو نظم انتخاب، وما دامت هذه الآليات لا تُصادم القطعيات ولا تُخِلّ بالمقاصد، فهي من دائرة الوسائل المتغيرة الواسعة. وفي هذا المسار يصبح استصحاب كل ما وصل إليه العلم الحديث من أنظمة إدارية ورقابية ورقممية جزءًا من الفقه العملي للدولة؛ لأنها وسائل لإقامة العدل ودفع الظلم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأما العقوبات التي جاءت محددة لجرائم معينة فليست مطلقة التطبيق، بل أحاطها الإسلام بضوابط دقيقة وإثباتات صارمة، مثل شرط أربعة شهود في حدّ الزنا، وهو شرط يكاد لا يتحقق إلا نادرًا، فضلًا عن أن الإسلام حضّ على الستر ابتداءً، وجاء بقاعدة عظيمة: «ادرؤوا الحدود بالشبهات». وما سوى الحدود جعل له الإسلام مساحة واسعة للتعزير تراعي اختلاف الأحوال، وتبدأ من النصح وتنتهي — عند الحاجة — بالعقوبات التعزيرية المختلفة بحسب خطورة الجرم وتهديده للنظام العام.
وفي مسألة الردة التي يسيء كثيرون فهمها، فرّق الإسلام بين حرية الاعتقاد قبل الدخول فيه — وهي حرية مكفولة — وبين حماية النظام العام لجماعة قررت أن تكون مرجعيتها الشريعة. فالإنسان لا يُكره على الدخول في الإسلام، ولا يُحاسَب على معتقده قبل الانتماء إليه، لكن حين يختار الانضمام طوعًا، يصبح جزءًا من نظام عام يحفظ تماسك المجتمع. ومن هنا جاءت عقوبة الردة لا بوصفها عقوبة على الاعتقاد، بل بوصفها إجراءً يمنع التلاعب بالهوية والانتماء، وهو مبدأ لا يختص بزمنٍ دون زمن؛ إذ إن إعلان الردة كان — في سياقات تاريخية معروفة
— يُستعمل أحيانًا مدخلًا لزعزعة البنية الداخلية للدولة وإضعاف ولائها. ولذا كان الإعلان العلني بالخروج — لا القناعة القلبية — هو محلّ التجريم؛ أما الخروج الصامت غير المعلن فلا شأن للدولة به لانتفاء الضرر فيه. كما أن الرجوع — ولو كان صوريًا — يرفع موجب العقوبة لزوال مبررها المتعلق بالحفاظ على وحدة الجماعة ومنع الفتنة.
وإذا كان بعض المترصدين يثيرون هذه الأحكام، فإن دراسة فلسفات الدول العلمانية تُظهر أنها تملك منظومات مشابهة تحت مسمى “حماية النظام العام”. فأوروبا تُجرّم إنكار الهولوكوست، وبعض دولها تُجرّم انتقاد المثلية والهوية الجندرية، والولايات المتحدة تُعاقب الجماعات المصنفة “معادية للدولة” حتى لو كان نشاطها فكريًا. وهي تشريعات بشرية تُعلي حماية البنية الداخلية للدولة. فكيف يُستنكر على الإسلام — وهو عند أهله وحيٌ إلهي — أن يضع ضابطًا مشابهًا يحفظ وحدة الجماعة؟
أما القول إن العلمانية حيادٌ، فالتاريخ والواقع يكذّبانه؛ فهي — عمليًا — منظومة قيمية لها مقدساتها ومحرماتها، تعاقب على انتهاكها، وتفرض رؤيتها الأخلاقية والاجتماعية. وفي المقابل لم يستطع الغرب أن يبني منظومته القانونية دون الاستفادة من الفقه الإسلامي؛ فقد صرح مونتسكيو بأن فكرة فصل السلطات استلهمها من التجربة الإسلامية، ووصف غوته الشريعة بأنها ذات اتساق داخلي فريد، وأثنى فولتير على عدالة القضاء الإسلامي، وأكد توماس أرنولد تقدّم الفقه الإسلامي في المعاملات، وقرر لوبون أن أوروبا لم تعرف التنظيم والعدل إلا بعد احتكاكها بالحضارة الإسلامية.
ومع أن الغرب يعلن علمانيته، فإن جذوره المسيحية ظاهرة؛ فالدولار يحمل عبارة In God We Trust، والرؤساء يقسمون على الإنجيل، والكونغرس يفتتح جلساته بصلوات مسيحية، وأعلنت ميركل أن ألمانيا «ذات جذور مسيحية»، وقال بوش الابن إن «القيم المسيحية تقود رؤيتنا السياسية»، ولا تزال أحزاب كبرى تحمل أسماء مسيحية صريحة.
وهكذا يتبيّن أن الإسلام لم يأت كنظام ثيوقراطي يفرض فيه الحاكم إرادته باسم الدين، بل ليجعل الحاكم ذاته خاضعًا لإقامة الدين، محكومًا بأحكامه، ومحاسَبًا أمام قضاء مستقل لا يملك التدخل في مساره، فلا يكون الحكم في الإسلام سلطة فوق القانون بل سلطة يضبطها القانون. ولم يأت كنموذج وضعي جامد، بل جاء ميزانًا تُوزن به أنظمة البشر: ميزان العدل والإحسان وصيانة الجماعة ورفع الظلم، وهو جوهر قوله تعالى:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَانِ وَإِیتَاۤىِٔ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَیَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡیِۚ یَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾.
ومنظومة تجمع الحرية بالنظام، والرحمة بالقوة، والمبدأ بالواقعية، لا يمكن أن تكون من وضع البشر، بل هي من وحي السماء.




