محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (2 من 10): زراعةٌ تشعر وتستجيب

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب:. بهدوء و تدبر..وما أدراك ما النانو (2 من 10): زراعةٌ تشعر وتستجيب
حين بدأ الإنسان يدرك أن المادة تتبدّل خصائصها عند حدود النانومتر، لم يكن يعلم أنه يفتح بابًا لعصرٍ جديد في الزراعة والحياة. فمن رحم علمٍ يُعنى بدراسة ما لا يُرى، خرجت تقنياتٌ تغيّر وجه الأرض اليوم، وتحوّل الزراعة من نشاطٍ بدائيٍّ يعتمد على التجربة والمصادفة إلى علمٍ دقيقٍ يتفاعل مع النبات والبيئة كما يتفاعل الجسد مع خلاياه. لقد كانت الزراعة منذ فجر التاريخ رهينة المناخ والماء والتربة، لكن علم النانو نقلها إلى مستوى جديد من التحكم الذكي
والاستجابة الحية. فعلى مقياس النانومتر يمكن للأسمدة أن تُصمَّم لتُطلق عناصرها الغذائية ببطءٍ وانتظامٍ وفق حاجة النبات، فلا تُهدر الموارد ولا تتلوّث البيئة. ويمكن للمبيدات النانوية أن تُوجَّه إلى الحشرات أو الفطريات المستهدفة بدقةٍ متناهية، فتقضي عليها دون أن تُضر بالكائنات النافعة أو الإنسان.
وفي عالم المياه أتاحت مواد النانو ثورةً حقيقيةً في تنقية المياه وتحليتها؛ فالأغشية النانوية قادرة على حجز أدقّ الملوثات والجزيئات العضوية السامة بكفاءةٍ تفوق الطرق التقليدية بعشرات المرات، وبتكلفةٍ أقلّ واستهلاكٍ للطاقة أخف. وبهذه التقنيات يمكن للدول الفقيرة مائيًا أن تحوّل مواردها المحدودة إلى ثروةٍ مستدامة، وأن تزرع حيث لم يكن يُظن أن الزرع ممكن. أما في التربة، فالنانو يدخل كطبيبٍ صامت، يرصد رطوبتها وحرارتها ونسبة الأملاح فيها، ويرسل الإشارات إلى مراكز المراقبة أو أجهزة الري لتعديل تدفق الماء والغذاء بدقةٍ عالية. إنها الزراعة الذكية بالنانو، التي تجمع بين المادة الدقيقة والبيانات الرقمية، لتجعل الأرض تتحدث، والنبات يُجيب، والمزارع يوجّه كل ذلك من شاشةٍ أو هاتف.
ولا تقف تطبيقات النانو عند هذا الحد، بل تمتد إلى حفظ الأغذية وإطالة عمرها؛ فالتعبئة النانوية تُنتج أغلفةً تمنع تسرب الأكسجين والرطوبة والميكروبات، وبعضها مزوّد بجسيماتٍ تستشعر فساد الطعام وتغيّر لونها إن تلوث، فتحمي الإنسان من الأخطار قبل وقوعها. وهكذا يتحوّل علمٌ وُلد في مختبرات الفيزياء إلى أداةٍ لإحياء الأرض، ويصبح النانومتر – وهو أصغر وحدة قياس – وسيلةً لتحقيق أكبر غايات الإنسان: الأمن الغذائي والاستدامة. فالعلم الذي بدأ من الذرّة عاد ليخدم الجذور، وليجعل الزراعة أكثر رحمةً بالبيئة، وأكثر كفاءةً في الإنتاج، وأكثر اتساقًا مع التوازن الدقيق الذي سخّره الله في الأرض.
وفي كل هذا تتجلّى سنّة الله في الإتقان والميزان؛ إذ يقول تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ»، أي مقدّر بميزانٍ لا يختل، وهو جوهر تقنيات النانو التي تبني وظائفها على المقادير الذرية ومحاكاة قوانين الخلق. وحين يكتشف الإنسان هذا الميزان ويتعامل معه علمًا وابتكارًا، فهو في الحقيقة يقترب من روح هذه الآية في أعمق معانيها.
إن الزراعة النانوية ليست رفاهيةً علمية، بل هي طوق النجاة في زمن التغير المناخي وندرة المياه، وهي المدخل العملي لنهضة السودان القادمة إن أحسن توظيفها. فالسودان – بمساحته الممدودة، وتربته الخصبة، ومياهه السطحية والجوفية الغزيرة – قادر على أن يتقدم لا أن يتبع، وأن يدخل إلى الزراعة الذكية بالنانو مباشرةً دون المرور بالمراحل البطيئة التي عطلت غيره. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا اجتمع العلم مع الحرية الاقتصادية والتحرير الشامل والرقمنة المتكاملة؛ فالنانو بلا رقمنة يفقد نصف قوته، والنانو بلا تحرير اقتصادي يفقد القدرة على الانتشار، والبيروقراطية العقيمة تُميت الابتكار قبل أن يولد.
هذه لحظةٌ فاصلة بين زراعةٍ تقليديةٍ تُتعب الأرض وتستنزفها، وزراعةٍ نانويةٍ تشعر وتستجيب وتُنتج أكثر بأقل؛ وبين هذين النموذجين يتحدّد مستقبل الغذاء في العالم، وموقع السودان في الخريطة الجديدة للنهضة الزراعية. وكما أن النانو يعيد تعريف المادة من جذورها، يجب أن نعيد نحن تعريف الزراعة من أساسها، لتصبح أداة إنتاجٍ ومعرفةٍ واستدامة، لا مجرد نشاطٍ موسميٍّ خاضعٍ للظروف.
وما أعظمها رسالة حين يصبح منطق النانو – في دقّته وتوازنه – تجسيدًا لمبدأ الخلق نفسه: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ». فالإتقان سبيل البقاء، والابتكار طريق الحياة، ومن الذرة إلى البذرة… تولد النهضة من جديد.




