مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..فن الحرب والإسلام: حين يُهذّب العدلُ سيفَ العقل

 محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..فن الحرب والإسلام: حين يُهذّب العدلُ سيفَ العقل

 

 

منذ أكثر من ألفي عام، كتب الفيلسوف والقائد العسكري الصيني سون تزو كتابه الخالد فن الحرب. لم يكن مجرد دليل للميدان، بل فلسفة متكاملة عن إدارة الصراع، وعن النصر بالعقل قبل السيف، وعن الغلبة بالدهاء قبل الدماء. مقولته الشهيرة: «كل الحرب تقوم على الخداع» صارت قاعدة عسكرية عالمية استلهمتها جيوش كبرى وقادة عظام عبر القرون.

لكن حين نقارن هذه الرؤية بما جاء به الإسلام، نلمس الفارق الجوهري بين من جعل الخداع قاعدة مطلقة، وبين من جعله تكتيكًا محدودًا في إطار منظومة قيمية رفيعة. فقد قال رسول الله ﷺ: «الحرب خدعة» (رواه البخاري ومسلم). ومع ذلك حرّم ﷺ الغدر فقال: «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة يُقال: هذه غدرة فلان» (رواه البخاري ومسلم). كما نهى عن قتل غير المقاتلين، ففي حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا بعث جيشًا قال:
«اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا» (رواه مسلم).

وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامة قال: «لا تقتلوا امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرمًا، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة» (الموطأ لمالك). هذه المبادئ جسّدها المسلمون في معاركهم؛ ففي بدر أُسر المشركون فأوصى النبي ﷺ بالإحسان إليهم، بل جعل فداء بعضهم تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة. وفي فتح مكة قال ﷺ: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي بسند حسن)، في مشهد لم يعرفه تاريخ الحروب من قبل.

سون تزو علّم أن الانتصار يُحسم قبل أن يبدأ القتال: في التخطيط، وفي معرفة النفس والعدو، وفي دراسة الأرض والزمان والقيادة. وهذا يلتقي مع القرآن الذي أمر: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، لكنه أضاف ما غاب عن فلسفة سون تزو: أن النصر ليس ثمرة العقل وحده، بل عطاء من الله: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126]. وهكذا تصبح المعرفة والتخطيط وسائل لازمة، لكنها لا تُغني عن عدالة المقصد وثقة المؤمن بوعد الله.

القائد عند سون تزو هو رجل حكيم يعرف متى ينسحب ومتى يهاجم، يوازن بين الحزم والرحمة. أما الإسلام فرفع صورة القائد إلى مرتبة أسمى: قائد مسؤول أمام الله عن دماء الناس، لا يقاتل للتوسع الجائر ولا للهيمنة، بل لرد العدوان ونصرة المستضعفين، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ [النساء: 75].

لقد صار فن الحرب اليوم يُدرَّس في الجامعات العسكرية ويُستفاد منه في الاقتصاد والإدارة والرياضة، باعتباره دليلًا على أن الذكاء يسبق القوة. أما الإسلام فقد تجاوز ذلك، إذ علّم أن الذكاء بلا عدل يفضي إلى طغيان، وأن القوة بلا رحمة تولّد خرابًا، وأن الحرب إذا تجاوزت غايتها الشرعية في رد العدوان وتحقيق السلام العادل فقد فقدت معناها ومشروعيتها.

سون تزو رفع العقل فوق السيف، فجعل النصر فنًا للتخطيط. أما الإسلام فرفع العدل فوق الاثنين، فجعل الحرب استثناءً مهذّبًا بالعقل، مضبوطًا بالرحمة، ليبقى السيف في خدمة القيم، لا أن تصبح القيم أسيرة السيف. وبين حضارة تُعلي من الخداع والانتصار المجرّد، وحضارة تُعلي من العدل والرحمة حتى في قلب المعركة، يتضح أي طريق يليق بالإنسانية أن تسلكه.

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى