مقالات

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..غياب المؤسسات السيادية: ستسألنا الأجيال القادمة ماذا فعلتم من أجلنا

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..غياب المؤسسات السيادية: ستسألنا الأجيال القادمة ماذا فعلتم من أجلنا

 

 

في ظل غياب مؤسسات راسخة تحمي الحقوق ، وتضمن سيادة القانون ، وتؤسس لبيئة سياسية واقتصادية مستقرة ،
يعيش السودان اليوم على مفترق طرق تاريخي فإما أن يظل غارقاً في دوامة الضعف والتشرذم ، وإما أن ينهض بقرار شجاع يضعه على مسار الدول الناجحة .
إن بناء دولة قوية وعادلة لا يقوم على الشعارات أو النوايا الحسنة وحدها ، ولا يمكن تحقيقه مع غياب أبرز الركائز التي لا تقوم بدونها دولة قوية تُستعاد بها هيبة المؤسسات، وتتحرر فيها طاقات الاقتصاد ، وتُغلق فيها أبواب الفساد إلى غير رجعة . وتشمل هذه المؤسسات المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية ومفوضية مكافحة الفساد،

المجلس التشريعي هو صمام الأمان الذي يعكس إرادة الشعب ويراقب أداء السلطة التنفيذية ويقر التشريعات التي تنظم الحياة العامة . في ظل غيابه تتسع فجوة المساءلة ، وتصبح السلطة التنفيذية بلا رقيب فعلي ، ما يفتح الباب أمام الاستبداد وسوء الإدارة . فوجود مجلس تشريعي منتخب وفاعل يعني أن صوت المواطن حاضر في كل قرار ، وأن القوانين تصدر بعد نقاش وتمحيص ومشاركة حقيقية .
المحكمة الدستورية هي الحارس الأعلى للدستور والضامن لعدم انتهاك الحقوق والحريات ، وهي المرجع الذي يفصل في النزاعات بين السلطات ، ويحمي المواطن من أي تعدٍّ على نصوص الدستور أو روح القانون . في الدول التي نجحت في بناء أنظمة مستقرة ، كانت المحكمة الدستورية حجر الزاوية الذي أعاد التوازن حين اختلّت الموازين ، وصححت المسار حين انحرفت السلطة أو تجاوزت حدودها .

ومفوضية مكافحة الفساد ، هي الأداة التي تمنع الفساد وتردعه قبل أن يستشري ، وتلاحق المفسدين أينما كانوا ، وتغلق الثغرات في النظام الإداري والمالي ، وتحمي المال العام من العبث . فكل خطط التنمية تنهار إذا ترك الفساد بلا رقيب ولا محاسبة ، وكل مشروع وطني يُفرَّغ من مضمونه إذا تسربت موارده إلى جيوب الفاسدين .
فبعد عقود من الصراعات والشلل الإداري والاقتصادي ، لم يعد أمامنا ترف الانتظار أو إضاعة الوقت في أنصاف الحلول . المطلوب هو بناء دولة تقوم علي ركائز راسخة لا غنى عن إحداها ولا بديل عنها وفق خطوات محسوبة مدروسة متزامنة وتنفذ دون تلكوء او إبطاء وهي :

تكوين المجلس التشريعي عبر الإختيار الحر المباشر من الشعب ووفق قواعد الشفافية والنزاهة ، ليكون معبرا عن الإرادة الحقيقية للشعب ويسعي لتحقيق تطلعاته .
تعيين المحكمة الدستورية بما يضمن حمايتها من أي تدخل أو تأثير ويوفر لها حق الرقابة على كل السلطات لتتمكن من حماية الدستور من أي انتهاك .
انشاء مفوضية لمكافحة الفساد بصلاحيات كاملة تبعد عنها تأثير وهيمنة الجهاز التنفيذي وتمكنها من الرقابة والملاحقة بدون حدود أو استثناءات .

تكوين المنظومات المكملة لهذه المؤسسات السيادية الثلاث والتي لا تتحقق الفاعلية المطلوبة منها بدونها ، مثل ديوان المراجعة القومي الذي يضمن التدقيق المستقل على المال العام ، ومفوضية الخدمة المدنية التي تضع معايير شفافة للتوظيف والترقي بعيداً عن المحسوبية ، والهيئة الوطنية للانتخابات التي تضمن نزاهة العملية الديمقراطية ، والمجلس الأعلى للإصلاح المؤسسي الذي يقود التنسيق بين جميع هذه الأجسام لضمان تكامل الأدوار ، فضلًا عن أجهزة رقابية متخصصة في قطاعات الأمن والاقتصاد والإعلام ، بحيث تُحاط الدولة بسياج من الشفافية والانضباط .

تأسيس هذه المؤسسات منذ البداية على أعلى أسس الاستقلالية والشفافية والكفاءة ، بعيداً عن المحاصصات الحزبية أو الفئوية أو المناطقية أو الاعتبارات الضيقة .
منح هذه المؤسسات الصلاحيات الكاملة والموارد الكافية التي تمكنها من أداء مهامها بفاعلية ودون تأثير .
إخضاع المؤسسات السيادية نفسها لرقابة شعبية وإعلامية دائمة ، لمنع أي انحراف في مسارها والذي ينعكس مباشرة على استقرار الدولة وثقة المواطنين .
تهيئة البيئة العامة اللازمة لأي إصلاح التي لا تستطيع أي مؤسسة أن تعمل بكفاءة او تكون لها ثمرة ما لم يكن

الإقتصاد فيها حراً تحريراً كاملا ، لأن الاقتصاد المحرر يجذب الاستثمارات ويخلق فرص العمل ويعزز استقلال القرار الوطني . وكذلك ضبط أجهزة الدولة بأنظمة رقمية تمنحها القدرة على تتبع الإنفاق ، ورصد المخالفات ، وإغلاق منافذ الفساد قبل أن تتسع . الرقمنة ليست مجرد ميكنة للخدمات ، بل هي أداة لكسر شبكات المحسوبية وإضعاف نفوذ الوساطات ، بحيث تُحاصر الرشاوى وتمنح المواطن حقه مباشرة دون وسيط . وذلك لكي لا تكون المؤسسات عرضة للشلل أو البطء .

إن الإصلاح المؤسسي لا ينفصل عن الأمن الوطني ؛ فغياب المؤسسات الرقابية لا يفتح فقط باب الفساد المالي ، بل يقوض الثقة بين الدولة والمجتمع ، ويخلق فراغاً تستغله المليشيات والجهات الخارجة على القانون . لذلك فإن المؤسسات القوية هي خط الدفاع الأول عن وحدة البلاد واستقرارها . كما أن الإصلاح ليس مهمة الحكومات وحدها ، إنما هو واجب مجتمعي وأخلاقي ؛ فالمواطن حين يلتزم بالقانون ويرفض الفساد يصبح شريكاً في النهضة . فالإعلام والمجتمع المدني هنا يشكلان عيناً ساهرة على نزاهة المشروع.

مؤسسات مستقلة راسخة، واقتصاد محرر مدعوم برقمنة شاملة . ليست شعارات نظرية ، بل وصفة عملية أثبتت نجاحها في دول خرجت من ظروف أشد قسوة مما نمر به اليوم ، فتحولت في سنوات معدودة إلى نماذج عالمية في النمو والاستقرار.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن الجمع بين المؤسسات القوية والاقتصاد المحرر والرقمنة الشاملة هو المعادلة التي تصنع المعجزات.

إن اللحظة التي نعيشها الآن ليست وقتاً للمجاملات ولا لتأجيل الإصلاحات ، إنما هي لحظة فاصلة تُكتب فيها ملامح مستقبل السودان لعقود قادمة . فإما أن نؤسس لمؤسسات قوية مستقلة ، واقتصاد محرر بالكامل ، ورقمنة شاملة تعيد للدولة هيبتها وتفتح أبواب الاستثمار ، وإما أن نستمر في دوامة الفشل التي أنهكتنا وقعدت بمسيرتنا وعطلت نهضتنا .
على صانع القرار أن يدرك أن التاريخ لا يرحم، وأن الأجيال القادمة ستسألنا : ماذا فعلتم حين أُتيحت لكم فرصة الإنقاذ؟ وعلى المواطن أن يدرك أن دعم هذا المسار ليس خياراً سياسياً عابراً، إنما هو واجب وطني وأخلاقي يشارك فيه الجميع .

السودان يستحق أن يكون في مقدمة الأمم ، ولن يتحقق ذلك إلا إذا اجتمعت الإرادة السياسية ، والرؤية الاستراتيجية ، والعمل المؤسسي ، والرقابة الشعبية ، في مشروع نهضة حقيقي يبدأ اليوم ، لا غداً .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى