محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..”سبب أزمة فقرنا الخفية: سوء الأخلاق ورداءة السلوك

محمد عثمان الشيخ النبوي يكتب: .. بهدوء و تدبر..”سبب أزمة فقرنا الخفية: سوء الأخلاق ورداءة السلوك
أزمة أخلاق وسلوك ووعي واختلال انظمة بل انعدامها ، هو سبب الفقر في بلادنا وليس هو ما أُسقط في أذهاننا أن سبب فقر بلداننا هو الحصار الخارجى أو لعنة التاريخ أو سوء الحظ الجغرافي .
وجميع ما يساق كمبرر للفقر غير هذا السبب تنفيه الوقائع ويكذبه الواقع . فبنظرة متأنية إلى واقع العالم تكشف أن هذه المبررات ليست إلا قناعاً يُخفِي أزمة أعمق :
فما الذي يجعل دولة غنية ويجعل أخرى فقيرة ؟
إذا كان السبب هو عراقة الحضارة فكيف نفسّر أن اليونان ومصر ، ذات الحضارات الممتدة لآلاف السنين تعانيان اليوم من أزمات اقتصادية خانقة ، بينما دول حديثة مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا لم يكن لها أثر قبل 150 عاماً صارت من بين أغنى دول العالم؟
وإذا كان السبب هو قلة أو انعدام الموارد فاليابان مثال صارخ للنفي . بلد صغير تغطي الجبال 80% من أراضيه ، لا يملك ثروات طبيعية تُذكر ، ورغم ذلك فهو ثالث أقوى اقتصاد على وجه الأرض . وسويسرا وهولندا أيضاً لا تزرعان الكاكاو ، لكنهما تنتجان أفضل أنواع الشوكولا وتستورد منتجاتهما دول تزرع الكاكاو ، ولا تملك
مساحات زراعية تُذكر ، ومع ذلك تصدّران أهم منتجات الألبان في العالم ، بل ان صادراتهم من منتجات الألبان تهيمن على اسواق دول تملك أضعاف قطيعهما الحيواني ومنها بلادنا .
كما أن السبب ليس نقص الذكاء أو ضعف القدرات ، فالحقيقة الصادمة أن المهاجرين من دول تُصنَّف فقيرة صاروا في الغرب القوة الإنتاجية المحركة للاقتصاد .
إذاً ما الفارق الحقيقي؟
الجواب ببساطة : الفارق هو السلوك العام . ففي الدول المتقدمة هناك قيم راسخة تسود المجتمع :
الصدق ، احترام القانون ، تقديس الوقت ، الاستقامة ، احترام الآخر ، إتقان العمل ، المسؤولية ، ثقافة الادخار ، احترام النظام ، والرغبة الدائمة في التحسين والتطوير ، بناء أنظمة ضابطة متكاملة فى ظل بيئة محررة من كل القيود التي تكبل الاقتصاد وتقيد حركة المجتمع .
بينما في معظم دولنا النامية تتجذر قيم معاكسة : الاستسهال ، الكذب ، الغش ، إهدار الوقت ، الفوضى ، الفساد ، قلة المسؤولية ، والرغبة في الربح السريع دون جهد ، انعدام كامل للبيئة الصالحة حيث أن الاقتصاد تكبله قيود ثقيلة تمنع انطلاقه ، والدولة تدار بأنظمة عتيقة عفا عليها الزمن ولم تدخل عصر الرقمنة المتكاملة
الأزمة إذن أخلاقية وسلوكية وبيئية وانضباطية في المقام الأول ، لا مادية ولا تاريخية ولا علاقة لها بالموارد
ورغم ذلك فالإنسان السوداني بما لديه من مخزونٍ قيميٍّ متراكم يجمع بين كل الصفات النبيلة من مروءة ونجدة وشهامة ومبادرة وكرم وإيثار ، وهي خصال لا تزال كامنة في المجتمع ، لكنها طُمست ودُفنت تحت أنظمة حكمٍ متعاقبةٍ غلب عليها الجهل والتخبط وغياب القدوة ، وكثرة استهلاك الشعارات، والإعراض عن تطبيق ما ينفع ، بل وتكريس ما يضرٌ ،
بل فاقم من ذلك التضييق عليه في معاشه وحراكه وشتى وجوه حياته ، وسدّ أبواب وآفاق المبادرة والإبداع والعمل الحر بتقزيم البيئة العامة بل وتسميمها .
ومع ذلك فإنك حتى في هذه البيئة المشوهة لا تزال تجد كثيراً جدّاً من النماذج السودانية المضيئة خلقاً وجِدّاً وورعاً وإتقاناً وتفانياً ، رغم أنهم في قمة المعاناة والضيق والنَصَب .
ومتى ما تغيّرت هذه الصورة الشائهة بقيادة رجالٍ من أهل الفهم والدراية والحزم والعزم ، وتم إصلاح البيئة العامة باطلاق الإقتصاد من عقاله وتحريره تحريراً شاملاً وضبط الدولة كلها بأنظمة ضابطة وتفعيل القانون ، فإنّ هذه الكنوز الأخلاقية ستتجلى في أبهى صورها ، وتتحول إلى طاقة نهوض وطني شامل .
نحن لا نعاني من شُح في الموارد، بل من شُح الضمائر والترتيب .
انظر إلى واقعنا : مدننا مليئة بالأوساخ ، بينما الآلاف يمرون دون أن يرفع أحدهم قطعة ورق بل يلقي القمامة كيفما اتفق وفي أي مكان أو من نافذة السيارة ولا يهمه أين ألقاها .
المواطن في اليابان يسلم المفقودات مهما غلا ثمنها للشرطة . أما في بلداننا ، فكثيرون يسرقون حتى ما وُكِّلوا بحراسته . ويميط الأذى عن الطريق ، وفي الحقيقة فإن هذا من قيمنا الأصيلة حيث قال رسولنا صلى الله عليه وسلم : “اماطة الأذى عن الطريق صدقة ” .
والمفارقة المؤلمة أن كل تلك القيم الإيجابية التي تنهض بها الأمم اليوم ليست غريبة عن تراثنا ، بل نحن أول من نادى بها وأسّس لها ، بل ونشرها في العالم .
فالقرآن والسنة وضعا أسس السلوك القويم منذ أربعة عشر قرناً ، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.”
إنّ احترام الوقت ، وإتقان العمل ، والصدق ، والأمانة ، والعدل ، والشفافية ، والحرص على النظافة ، كلها من تعاليم ديننا . نحن أساتذة هذه القيم نظرياً غير أننا أهملنا تطبيقها ، بينما التقطها الغرب فبنى عليها نهضته .
وليس من قبيل الصدفة أن النهضة الأوروبية انطلقت بعد ترجمة كتب المسلمين في الأندلس والشام ، فنهلوا من فكرنا وقيمنا ثم تفوقوا في تطبيقها .
واليوم إن أردنا عودة الريادة فلا سبيل لذلك إلا بالجمع بين هدى الإسلام القويم الذي يمتلك أقوى وأصح منظومة أخلاقية وتربوية في التاريخ وبين الحداثة العلمية والإدارية والتقنية التي بلغها العالم .
الدين الإسلامي قال بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم :
“إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه ” و قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) .
رواه أحمد والبخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
وهذا من صميم العدل والإحسان إذا ارتفق مع أي تقنية حديثة أو نظام عصري طالما هو في خدمة الإنسان وتحقيق مقاصد العمران.
بل إن من واجبنا الشرعي والعقلي أن نُسخِّر أحدث ما وصل إليه العلم من تقانة وإدارة ورقمنة، لكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بتوفير البيئة الصالحة للعمل والعقل، وهي بيئة لا تُبنى إلا عبر
تحرير السوق والعملات من الفوضى والفساد ، وتحرير الإنسان من قبضة البيروقراطية والوساطة والاحتكار ، مع رقمنة الخدمات والإدارة والرقابة ، بما يُرسّخ الشفافية والكفاءة والانضباط .
فما نملكه من رصيد أخلاقي في تراثنا، وما تملكه البشرية اليوم من أدوات نهضة، إذا ما جُمِعَا وتكاملا، فنحن مؤهلون لأن نكون الأمة الأولى في الجمع بين الإيجابيات الشاملة للمباني والمعاني.
وقد شهد بذلك التاريخ، فالأمة الإسلامية في أوج قوتها جمعت بين رُقي الروح ونباهة العقل ، بين العلم والإيمان ، بين الإدارة بالعدل والريادة في الاكتشاف .
أما اليوم، فإننا – إن لم نبادر – سنُستبعد من مسيرة الإنسانية كما استُبعد غيرنا من قبل. ولن يُصلح حالنا إلا إذا صلح سلوكنا، وانطلقنا نحو التغيير متسلحين بقيمنا، وعقولنا، وإرادتنا.





