محمد الحسن محمد نور يكتب:من الذي دمّر السودان؟ وكيف السبيل إلى الخروج؟

محمد الحسن محمد نور يكتب:من الذي دمّر السودان؟ وكيف السبيل إلى الخروج؟
لم تكن حرب أبريل 2023 سوى القشة التي قصمت ظهر البعير؛ الضربة القاضية لجسد أنهكته عقودٌ من الفشل السياسي وسوء الإدارة.
هذه الحرب لم تحدث فجأة أو من فراغ، بل جاءت نتيجة حتمية لمسار تراكمي بدأ منذ فجر الاستقلال، حين عجزت النخب عن صياغة مشروع وطني أو استراتيجية واضحة لرسم مستقبل الدولة الوليدة، وبدلاً عن ذلك غرقوا في صراعٍ مهووس على الفوز بالسلطة. فحصدنا تراكم القصور وضيق الأفق وانعدام الرؤية.
بدأ الانهيار باكراً مع أول تجربة ديمقراطية فاشلة: انتخابات 1956 التي أفرزت برلماناً هيمن عليه الأميون، حيث استغل الحزبان الكبيران (الأمة والوطني الاتحادي) التبعية والولاءات القبلية والدينية في مناطق ريفية بدائية.
حكومة إسماعيل الأزهري الأولى، التي اعتمدت على الحماسة الوطنية وافتقرت للتخطيط، تفككت وسقطت تحت وطأة الأزمات والانقسامات، لتخلفها حكومة عبد الله بك خليل. إلا أن هذه الأخيرة لم تدم طويلاً، وعمت الفوضى البرلمان والشارع.
دفع هذا الوضع عبد الله بك خليل (ذو الخلفية العسكرية) إلى اتخاذ قرار مصيري ظل يطارد السودان حتى يومنا هذا، حيث قام بتسليم السلطة طواعية للجنرال إبراهيم عبود عام 1958 بحجة «حفظ الأمن». وهكذا أُدخل السودان في دوامة الحكم العسكري، مُرسياً سابقةً تحوّلت إلى لعنةٍ دائمة.
أصبحت الانقلابات العسكرية أداةً في يد النخب السياسية الفاشلة. فانقلاب 1969 دبَّره الحزب الشيوعي عبر تنظيم «الضباط الأحرار»، وجاء جعفر النميري (كرئيس) لعلوّ رتبته العسكرية. لكن الخلافات
سرعان ما نشبت بينهم، فانقلبوا عليه عام 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا. إلا أن النميري تمكن – بدعمٍ خارجي – من استعادة السلطة، ثم انتقم منهم جميعاً بإعدام قادة الانقلاب وقادة الحزب الشيوعي، دون محاكمة. وهكذا رسّخ نهجاً دموياً صار سمة للحكم العسكري.
في هذا المناخ، اغتنم الدكتور حسن الترابي (زعيم الإخوان المسلمين) فرصة الفراغ، فتسلل إلى حكومة النميري كمستشار قانوني، ثم تولى رئاسة اللجنة القومية لإعادة الهيكلة القانونية، والأهم: منصب الأمين العام للحزب الحاكم الوحيد (الاتحاد الاشتراكي) عام 1979. استغل الترابي نفوذه لإقناع النميري بتطبيق الشريعة الإسلامية، وترأس لجنة صياغة قوانين سبتمبر 1983 التي أُعلنت بمرسوم رئاسي.
شكّل إعلان هذه القوانين وتطبيقها العشوائي أحد أكبر الأخطاء الاستراتيجية: إذ زاد من تأجيج الحرب في جنوب السودان، وأشعل التمرد في دارفور وجبال النوبة، رغم أنه كان بالإمكان تفادي ذلك عبر مراجعة القوانين وتطبيق الحكم الفيدرالي، ومن داخل لجنة الترابي نفسها المنوط بها إعادة الهيكلة القانونية، دون إثارة حنق غير المسلمين.
بعد سقوط النميري بثورة شعبية، جاءت حكومة الصادق المهدي عبر انتخابات شابها الفساد. واجهت هذه الحكومة أزمات معيشية خانقة وتحديات طبيعية كارثية (كالسيول)، وفشلت في إدارة الأزمات والبلاد. وفي ليلة 30 يونيو 1989، شوهد الصادق المهدي إلى جوار مهندس الانقلاب حسن الترابي (صهره) في حفل زفاف بالخرطوم – مشهدٌ أثار تساؤلاتٍ حول التواطؤ. وبعد ساعات، نجح انقلاب عمر البشير.
أعلن البشير ما أسموه بالمشروع الحضاري. حوّل نظام البشير الدولة إلى غنيمة عبر سياسة «التمكين» التي شردت الكفاءات واستبدلتها بموالين غير مؤهلين. وتم تكثيف «الهندسة السكانية» (التي بدأت في عهد الصادق المهدي) بجلب جماعات فقيرة من الأطراف ودول الجوار لخلق كتلة انتخابية عمياء.
انعدام التخطيط للمشروع الحضاري أفرز شعبويةً غوغائية وخطاباً عدائياً استفزازياً («أمريكا وروسيا قد دنا عذابها»)، مما أدخل البلاد في عقوباتٍ دولية وعزلة سياسية. اشتعلت حروب الجنوب ودارفور وجبال النوبة وأنشئت ميليشيات «الدفاع الشعبي»، ثم توج الجهد بـ«الجنجويد» كأداة لحماية النظام.
وفي تصعيدٍ خطير، استضاف النظام رموزاً إرهابية (بن لادن وكارلوس)، فأدخل السودان تحت طائلة «محاربة الإرهاب». وعندما انهار الاقتصاد، سعى البشير محموماً لاسترضاء الغرب وقام بتسليم ملفات أمنية حساسة، إلا أن ذلك لم يشفع له، واستمر الضغط الدولي حتى أجبر نظام البشير صاغراً على فصل جنوب السودان عام 2011، مما أفقد البلاد ثروتها النفطية وأوصلها حافة الانهيار.
الثورة الشعبية أسقطت حكم البشير عام 2019، وجاءت بحكومة هجينة لعبور الفترة الانتقالية، لكنها سرعان ما تشرذمت وفارقت بالصراع الداخلي، مما أدى إلى انقلاب العسكريين على المدنيين وإبعادهم. في هذا المناخ المحتقن، تسللت قوات الدعم السريع في صمت ووضعت يدها على كل مفاصل العاصمة، فيما بدا وكأنها خطة أُعدت بإحكام بهدف الاستيلاء على السلطة.
وفي الرابع عشر من أبريل 2022 اندلعت الحرب، وكانت الطامة الكبرى. نشبت الحرب، فلم تترك شيئاً. قُتل مئات الآلاف وشُرّد عشرات الملايين. دُمّرت المدينة بالكامل، وانهارت منظومتها وبنيتها التحتية، لا شوارع ولا جسور، ومباني مدمرة، لا ماء ولا كهرباء ولا أسواق ولا خبز. وأصبحت الخرطوم أرضاً وبيئة ملوثة بمخلفات الحرب ومرتعاً للكلاب الضالة التي تأكل الجثث المتناثرة. لم تقف عند ذلك بل زادت عليه بانتشار الأوبئة، وأوشك الوضع أن يتحول إلى مجاعة.
كيف الخروج من النفق؟
الخراب اليوم هو نتاج ورم خبيث نما عبر ستة عقود. لكن الخلاص ممكن عبر خارطة طريق واضحة وتنفيذ منضبط. نبدأ بعرض هذا المقترح ونأمل في وضعه على طاولة الحكومة الحالية كمساهمة متواضعة قصدنا منها فتح الباب لآخرين لإبداء آرائهم لتكوين رأي جمعي يحفز آراء الشارع، حتى تتمكن الحكومة من الاستفادة منها للخروج بخطة محكمة يلتف حولها الشعب. ونتمنى أن تحشد وتسخر كل الإمكانات لهذا العمل المصيري الضخم والمعقد في وقت واحد.
المهام حسب أولوياتها:
المهمة الأكثر إلحاحاً هي إنهاء الحرب، وليس فقط وقفها. وفي رأينا المتواضع أن إنهاء الحرب لا يتم أبداً عبر التفاوض مع الدعم السريع، فالدعم السريع ورم يجب استئصاله، والتفاوض معه يعني عملياً مكافأته على جرائمه بمنحه فرصة ومكانة لا يستحقها ولا يجب أن تكون. فضلاً عن أن وجوده في الساحة السياسية سيكون عملياً استمراراً للحرب، وذلك لأنه هو المشكلة ذاتها ولا يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
الطرق لتفكيك الدعم السريع متعددة، وأهمها سحب البساط من تحت أقدامه، والسعي للتفاوض المباشر مع داعميه الإقليميين والدوليين. فالتفاوض مع الدول ليس كالتفاوض مع مليشيا.
إن داعمو المليشيا، ومهما كان رأينا فيهم، فإن الحقيقة الماثلة تقول بأنهم هم القادرون فعلياً على إنهاء هذه الحرب. وعلى الفريق المفاوض التحلي بالمرونة اللازمة تجاه المصالح المشروعة للداعمين (دون تفريط ولا تشدد) مقابل صيانة السيادة الوطنية.
تفكيك الدعم السريع يعقبه التصرف في عناصره بما يراه أهل الاختصاص من دمج وتسريح. يلي ذلك البدء في عملية تفكيك الحركات المسلحة الأخرى، ويتم عبر ثلاث حجج دامغة:
1. إسقاط نظام البشير كان هو الهدف المعلن من قبل هذه الجماعات من وراء حمل السلاح ضد الدولة، وقد سقط حكم البشير الآن. فلماذا تستمر الحركات في حمل السلاح؟ (وهذه لوحدها كافية لإقناع هذه الجماعات بحل نفسها.)
2. سقوط حجة قضية التهميش: لقد سقطت قضية الهامش والمهمشين التي ظلت هذه الجماعات تروج لها منذ عقود. أما وقد دُمّرت المدن وتشرد سكان العاصمة، فلم يعد هناك مركز، وقد أضحى الكل هامشاً. فالاستمرار في حمل السلاح تحت شعارات التهميش أصبح بدون معنى، ولا يُصنف إلا ابتزازاً سياسياً في وقت غير مناسب. على كل الحركات المسلحة – بلا استثناء – أن تتحول من منطق المطالبة بالحقوق (الذي سقط) إلى منطق قبول التحدي وبناء الوطن.
3. إعلان الفيدرالية يمنح جميع الأقاليم السلطة للتحكم في مقدراتها وثرواتها حسب قوانين الحكم الفيدرالي، وذلك ينفي تماماً وجود مظلوميات تقوم من أجلها جماعات بحمل السلاح ضد الدولة أو الاحتفاظ به.
بعد الانتهاء من هذه المرحلة، تتجه الدولة إلى جمع السلاح الذي انتشر عشوائياً من أيدي الأفراد منعاً للجريمة وإرساءً للأمن والاستقرار. تشرف على حل الحركات المسلحة فرق متخصصة ذات دراية بأساليب وطرق التفاوض. وتختتم هذه المرحلة بتكوين جيش مهني قوي موحد ذي عقيدة قتالية واحدة، ينأى بنفسه ويبتعد عن العمل السياسي.
هذا العمل يسير بالتوازي مع عودة المواطنين إلى ديارهم.
العودة: وبالطبع العودة للديار في هذه الظروف القاسية والمدن المدمرة التي تفتقر لأبسط مقومات الحياة هي عملية في منتهى الصعوبة، وتتطلب قدراً كبيراً من الجهد والصبر والمسؤولية والتنظيم.
تبدأ السلطات والمتطوعون بإدارة وتوزيع المساعدات والمعونات الإنسانية العاجلة بشفافية عبر منظمات سودانية مستقلة، مع مراقبة دولية. تزامناً مع هذا، تهتم الحكومة بدعوة المانحين لإدخال المزيد من هذه المعونات وتشرف على إدارتها. وفي ذات الوقت، تقوم بتشكيل أجسام فاعلة لتنظيم حركة العائدين وتوفير الخدمات والإمكانات لإتمام ذلك، ويمكن توظيف المتطوعين من الشباب ولجان الأحياء والأحزاب.
توحيد الجبهة الداخلية:
– إطلاق حملة «السودان ينتفض للسلام» بتنظيم الشباب في حملات توعية مدروسة ومتواصلة ينظمها متخصصون، ينخرط ضمنها المتطوعون من الشباب والنساء، وتنظيم مساحات حوار مجتمعي، ومنصات إعلامية تنشر المعرفة وتحارب العنصرية والجهوية، وتسكت الكذب والتضليل والألفاظ النابئة وخطاب الكراهية، وتمجد السلام وتُعلي صوت العقل.
الإصلاح القانوني والمؤسسي:
– تزامناً مع الخطوات أعلاه، يتم إصلاح ومراجعة وتنقيح قانون الفيدرالية (بواسطة لجان متخصصة مدعومة ببيوت خبرة عالمية).
– ثم على الفور تبدأ الخطوات العملية لإجراء انتخابات ولائية لتكوين مجالس وحكومات ولائية، مع وضع الحد الأدنى لكفاءة المرشحين.
– يتم ابتعاث ثلاثة أفراد من كل برلمان ولائي للمركز لتكوين المجلس التشريعي.
– تشترط الكفاءة في كل المرشحين (قانوناً).
المؤتمر الدستوري الشامل:
– مشاركة خبراء دستوريين دوليين كمراقبين فقط.
– إعداد مسودة مشروع الدستور الدائم للبلاد وتقديمها للمجلس التشريعي الذي تم تكوينه من عضوية المجالس الولائية.
– تُطرح مسودة الدستور للنقاش.
– إقرار دستور دائم يُجرّم الانقلابات، ويُرسي التداول السلمي للسلطة.
– استقلال القضاء.
– إصلاح الأجهزة الأمنية وقوانين الخدمة المدنية.
– قوانين القوات المسلحة.
– قوانين الأحزاب، برامجها، تمويلها، وعضويتها.
– تكوين «الهيئة العليا للنزاهة»: تبدأ بخبراء سودانيين ودوليين، بغرض اكتساب الخبرة، ثم تُسند بالكامل للكفاءات السودانية.
> «ليس الخلاص في استبدال ديكتاتورية بديكتاتورية، بل في عقدٍ اجتماعي جديد يُحوّل السودان من دولة ‘الغنيمة والسلاح’ إلى دولة ‘المواطن والإنجاز’»
الخاتمة:
من رحم المعاناة… يولد الأمل، ونتمنى أن تمثل خطتنا هذه بداية ذاك الأمل الذي يوصلنا الخطوة الأولى لبر الأمان. فالسودان لم يُدفن بعد. والتاريخ يُعلّمنا أن الأمم تُبنى بعد محنها الكبرى. رؤية الحل الشامل ليست حبراً على ورق، بل دليل عملٍ يثبت أن الانهيار كان خيار النخب، بينما البناء سيكون إرادة الشعب. طريق الخروج يبدأ بخطوة جريئة: وقف نزيف الدم أولاً، ثم وضع اللبنات بدقة الصائغ لا عجلة الجائع. فالوطن الذي فقدناه بالجهل… نستعيده بفضل الله وتوفيقه، ثم بالحكمة والعزيمة والإصرار والصبر والمثابرة.