كيف ألهبت قصائد المديح الثورة ضد المحتل؟..المولد النبوي بالسودان قبل قرن من الزمان
الخرطوم- ذكر المعجزات والشمائل النبوية والسيرة مما درج عليه الشعراء وهم يكتبون مدائحهم النبوية، لكن ليس ذلك وحسب ما حوته القصائد، ففي السودان تحفظ الذاكرة الثقافية أدوارًا أخرى للقصائد المادحة لعبتها في الحقبة الاستعمارية وبشكل خاص في عشرينيات القرن الماضي.
البحث عن منبر
“نحتاج أن نتخيل الحال في ذلك الزمان، كي ندرك كيف تتحول قصائد المديح النبوي لزناد يقدح نار المقاومة”.
يستهل الناقد أبو عاقلة إدريس إفادته للجزيرة نت بهذا الشرط، والذي ينقلنا للنصف الأول من القرن الماضي، والسودان تحت الحكم الثنائي الإنجليزي المصري.
يواصل إدريس إفادته قائلًا “كان دعاة الحركة الوطنية وشعراؤها يتصيدون المناسبات والمنابر -على قلتها- لاستثارة الحس الوطني والدعوة لمقاومة المستعمر، وكان المولد النبوي إحدى هذه المناسبات”.
ولأن الاحتفال بالمولد النبوي من المناسبات المشهودة التي تضيق فيها الميادين والساحات بالمحتفلين، فقد كان منبرًا مهما.
ويرى الناقد الدكتور مصطفى الصاوي تميزا آخر يضاف للاحتشاد “الجمهور في ساحات المولد كبير ومتنوع، وتنحصر منابر أخرى على وجود نوعي، وربما كانت دعوات رسمية ومحددة”.
ويحدد الصاوي الاحتفال بالمولد ربيع 1342 هجرية الموافق 1923 م، بشهوده القصائد الأكثر جرأة على المستعمر، والتي حظيت بالتوثيق في بعض الكتب السودانية، وسبب ذلك -فيما ذكر الناقد- تنامي الحس الوطني الذي قاد إلى ثورة “اللواء الأبيض” عام 1924، والتي أعقبتها فترة سكون نسبية.
ويرى مؤرخون أن الأوضاع في مصر خاصة بعد ثورة 1919، أسهمت في زيادة الحس الوطني خاصة بين المتعلمين وخريجي كلية غردون التذكارية، مما أثمر قيام جمعية الاتحاد السرية واللواء الأبيض فيما بعد.
هذه التيارات الوطنية ترجمتها قصائد شعراء السودان بالعامية والفصحى. ويفيدنا الناقد الأستاذ مجذوب عيدروس قائلًا “بداية عشرينيات القرن العشرين الميلادي، وقد بدأت الحركة الوطنية السودانية تسفر عن وجهها، كان الشعر السوداني حاضرًا بشقيه العامي والفصيح”.
ويستطرد عيدروس في إفادته للجزيرة نت “اتخذت من ساحات المولد النبوي الشريف منابر يصدح فيها الشعراء بقصائدهم المقاوِمة للاستعمار، مستنهضة الهمم ومذكرة بماضي الأمة العربية والإسلامية التليد”.
طبيعة خاصة وزاويا مغايرة
خصوصية المناسبة لم تمنع الشعراء الوطنيين من بث مشاعرهم بشكل يتسق مع الموضوع الرئيسي (المولد النبوي). ويشير الشاعر والناقد إدريس إلى قصيدة الشاعر والمغني خليل فرح (1894-1932) المبدوءة بـ:
صرخةٌ في الشرق من فردٍ أغر مــلأ العـالـم دينًا فاستقر
وتمشـــى العــدل في أرجــــائه يطأ الظلم ويمحو كل شر
ويقول إدريس إن نظر خليل للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم من زاوية نهيه عن الظلم ونشره للعدل، وهذا من صميم ما يقوم به دعاة مناهضة الاستعمار. ويضيف “هناك أكثر من وجه استفاد منه الشعراء في الربط بين الدعوة لمقاومة الاستعمار ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم”.
ويصف الناقد الصاوي شعراء تلك الفترة بالمحسنين في إرسال رسائل مبطنة قائلًا “كان لابد من تبطين الرسائل، خاصة أن المخابرات كانت ترصد المشهد، سواء نشرت القصائد بالصحف أو ألقيت من منابر، وقد أحسن شعراء تلك الفترة في ذلك”.
وفي ذلك يورد الصحفي حسن نجيلة (1912-1983) في كتابه “ملامح من المجتمع السوداني” زوايا أخرى في انتقاد الأوضاع منها ما جدَّ من سلوك مجتمعي بسبب الممارسة العلنية للرذيلة، وهو من الجديد الذي أحدثته الحكومة، مستشهدًا بقصيدة صالح عبد القادر:
ما للمساجد لاتُؤمُّ حزينــة تبكي عليها السنة السمحاء
وديار فسق فُتِّحت أبوابُهـا علنًـا وبات يؤمهــا الأبنـاء
يقول نجيلة “إنها لإثارة خطيرة بين قوم شديدي التدين والإيمان”. كل ذلك يجعل النظرة للمحتل موصولة بأمور دينية ومجتمعية ليتكامل الرفض، كما لعن الشعراء في هذا المنبر الجهل والأهواء وعدم الالتفات للقضايا الكبيرة.
البوشي والمأمور المصري
ولأن القصائد التي تلقى على المنابر تحمل في طابعها كل هذه الرسائل السياسية والمجتمعية، والتي يتردد صداها بعد ذلك، صار قلم المخابرات يشدد الرقابة على ما ينشر، سواء الصحف أو المنابر الجماهيرية، ويطلب إعطاء نسخ من القصائد قبل قراءتها، ولم يخل الأمر من تحايل الشعراء في تغيير بعض الكلمات، أو إضافة أبيات أثناء القراءة.
ويذكر إدريس أن ارتباكًا حدث بسرادق الحكومة في مولد 1923 لأن أحد الشعراء أصَّر على القراءة دون أن يُسَلَم المنظمين نص قصيدته قائلًا إنه يحفظ شعره ولا يكتبه، ولما زادت البلبلة تدخل مأمور أم درمان المصري عبد الخالق حسن، وتحمل مسؤولية ما سيلقيه الشاعر مدثر البوشي.
وتورد الكتب أن البوشي استدعي للتحقيق بعدها وسلم من السجن بعد وساطات عديدة. ومما يجدر ذكره أن مأمور أم درمان كان داعمًا للوطنيين رغم وظيفته الحكومية.
وعن القصيدة يتحدث الناقد عيدروس قائلا “ألقى البوشي قصيدته (أرى ما أرى) وكانت مليئة بالأبيات الجزلة القوية، والتي تهاجم أكثر من جهة ومنها قوله:
يقــال رجــال، لا وربك إنهــم جديرون حقا أن يقـال فواطم
نفوس أبت فعل الجميل لأهلها وأيد إلى الأعداء نعم اللهازم
فمـا روع العليــاء إلا عمــائم تسـاوم فينا وهي فينـا سـوائم
ويضيف الناقد في إفادته المتصلة للجزيرة نت “عهدت السلطة الاستعمارية للمستر هيلسون، مدرس التاريخ بكلية غوردون، بترجمة قصيدة البوشي (أرى ما أرى) وجاء في تقرير المخابرات عام 1923 أنها نبوءة بثورة، وكان أن قامت ثورة اللواء الأبيض ولم يمض العام على تلك الحادثة”.
كتاب للمديح ودعم الثورة
مع تنامي النشاط السياسي السري لجمعيتي الاتحاد واللواء الأبيض، قررت جمعية الاتحاد السرية دخول ميدان النشر، أملا في بث الوعي والثقافة، واختارت اسم “الرابطة السودانية” وتصدى الصحفي والأديب سليمان كِشَّة لتلك المهمة.
وعن ذلك يقول الصاوي “كان كِشَّة ذكيًّا وشجاعًا، وكانت له ميزة بين أفراد الجمعية، فهو لم يكن موظفًا حكوميًّا في وقت كان الموظف فيه مقيدًا بالقوانين ومرصودًا أكثر من غيره”.
ويتحدث أيضا عن أول ما نشرته جمعية الاتحاد “كان (نسمات الربيع) أول كتاب تنشره الجمعية، وكان تجميعًا للقصائد التي ألقيت في احتفال المولد النبوي عام 1923، كان الغرض نشر هذه القصائد ودعم الجمعية من عائدات البيع”.
لكن الجمعية -ومن خلال متابعتها للمنابر- فطنت لمشكلة اختلاف النصوص المقروءة عن المكتوبة.
ويورد نجيلة في كتابه “ملامح من المجتمع السوداني” أنه تم تكوين فريقين كل واحد من 3 أعضاء، فريق مهمته كتاب الشطر الأول من الأبيات، والآخر يكتب الشطر الثاني، ثم تقارن النسخ الثلاث لتخرج المعتمدة منها.
ومما جاء في الإهداء “إلى كل من وضع لبنة في تشييد النهضة الأدبية، إلى النفوس الطامحة في الرقي والتقدم، إلى القلوب النابضة بحب البلاد إلى الضمائر الحية النقية، إلى المخلصين الأوفياء”. وحددت الرابطة الأدبية سعر النسخة بمبلغ 10 قروش، لكن أعضاء الجمعية شروها بأضعاف ذلك.
الكتاب الأول والهروب من الرقابة
لكن كيف حصل الكتاب على إذن طباعي ومرَّ من مقص الرقيب؟
سألنا إدريس فأجاب “تم الدفع بكتاب (نسمات الربيع) لمطبعة جريدة (حضارة السودانية) ولم يدفع الناشر بنسخة للرقابة ولم تفعل المطبعة كذلك، إذ اعتمد كل طرف على الآخر”.
ويروي ما جرى معتمدًا على ما ذكره الناشر في مذكراته “استلم الرقيب أول نسخة، وأشار لعدم وجود موافقته واعتراضه على عدد من الأبيات، وقدم عرضًا بشراء جميع النسخ وتحمل تكلفة طباعة النسخة الجديدة بعد حذف الأبيات، غير أن رئيس تحرير الحضارة الأستاذ حسين شريف أخبره أن الناشر استلم 50 نسخة وبدأ في توزيعها، ولم يكن قد فعل”.
وقد تم التغاضي عن الخطأ -الذي ربما كان مقصودًا- لكون الناشر قليل تجربة، ولكون (نسمات الربيع) أول كتاب يخرج من المطبعة التي لم تكن تطبع خلاف صحيفتها.
ويرى الدكتور الصاوي أن الوطنية أملت على شريف هذا التصرف، وأن ذكاء الرقيب صمويل عطية جعله يغض الطرف عن مصادرة الكتاب، بعد أن أخبر أن نسخًا تم توزيعها “فملاحقتها أكبر ترويج للكتاب” ليصل بعد ذلك “نسمات الربيع” للقراء ويضخ أموالًا في خزينة جمعية الاتحاد السرية.
ويذكر الصحفي نجيلة “في مثل هذه الأجواء خرج من المطبعة أول كتيب سوداني.. إذا استثنينا كتاب (شعراء من السودان) الذي أخرجه سعد ميخائيل، وهو شاب مصري يعمل بمصلحة البوسطة” وهذه معلومة تحتاج إلى البحث والتدقيق.
رحل الاستعمار وما زال الرفض
انتهت الحقبة الاستعمارية، لكن الرفض ما زال بين ثنايا بعض القصائد المادحة لكثير من العادات والسلوكيات، وما اعترى الأمة من حال، ويختم إدريس إفادته بالقول “على اختلاف العقود أشهرت بعض القصائد النبوية بالرفض لواقع يتمنى المسلم تغييره في السودان وغيره من بلاد الإسلام”.