طقوس رمضان.. بهجة التقاليد المتجددة تعطر تاريخ السينما المصرية
طقوس رمضان.. بهجة التقاليد المتجددة تعطر تاريخ السينما المصرية
خالد عبد العزيز
“بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر أو الهلال إلى محكمة القاضي، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقا عدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة، بينما تطوف الفرق الأخرى في أحياء مختلفة في المدينة ويهتفون يا أتباع أفضل خلق الله صوموا، صوموا”.
هكذا يصف المستشرق الإنجليزي “إدوارد وليم لين” قدوم شهر رمضان الكريم في القرن التاسع عشر في مصر، والمثير للتأمل أن هذه العادات والتقاليد الموروثة ظلت ثابتة ولم تتغير إلا في نطاق يسير حتى يومنا هذا، متابعة بزوغ الهلال في احتفالات رسمية يُعلن على إثرها ثبوت الحلول، وتمام موعد الصيام، فالتاريخ يُكرر نفسه، وإن كان في أثواب مختلفة عن المُعتاد.
والأعمال الفنية تلتقط من الثوابت والعادات ما يصلح للتناول من الناحية الدرامية، أو ما يُسلط عليه الضوء، فالكاميرا بشكل أو بآخر تُعد ميراثا حيا من الذاكرة، فما تلتقطه الأعمال الفنية من مشاهد ما هي إلا تعبير عن وقائع تلك الفترة القائم فيها التصوير أو الحدث الفيلمي، ومن ثم يُعد الشريط الفيلمي أرشيفا تاريخيا يُعتد به مع مرور الزمن.
ودائما ما تُعبر الأعمال السينمائية والتلفزيونية عن محتوى الشهر الكريم من عادات وتقاليد، رغم أن أغلبها ثابت لا يتغير، إلا أن ثمة تغير ما طرأ على التناول ذاته، كيف التقطت الكاميرا السينمائية معالم شهر رمضان؟ وما هي أبرز هذه المعالم والسمات؟ وهل طالت أيدي الزمن بمروره وتواليه هذه العادات برياح التغيير؟ أم ظلت راسخة تقاوم في صمود؟
نستعرض هنا أبرز معالم وسمات الشهر الفضيل التي عبر عنها الوسيط الفني السينمائي أو الدرامي التلفزيوني سواء في الماضي أو الحاضر.
فانوس رمضان.. طقس رمضاني ذو تاريخ عريق
يُحكى أنه في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله؛ مُنع خروج النساء إلى الشوارع ليلا خلال شهر رمضان، إلا إذا صاحبت المرأة طفلها وبيده فانوس يُنير لها الطريق، ومن هنا جاءت نقطة البداية في صناعة الفوانيس والاعتماد عليها كمصدر تلقائي للتعبير عن قدوم شهر الصوم، وقد عبّر الأطفال عن ذلك في أحد أكثر المشاهد شهرة في تاريخ السينما في فيلم “الفانوس السحري” (1960) الذي أخرجه فطين عبد الوهاب، إذ نرى الأطفال وهم يركضون فرحا بفوانيسهم المنيرة بأضواء الشموع، وإحدى الفتيات تبكي وهي مُمسكة بفانوسها القديم المتهالك، وحينها يُقبل مصطفى (الممثل إسماعيل ياسين) نحوها، ويشتري لها فانوسا جديدا، ويحصل هو على فانوسها السحري القديم.
وفي فيلم “العزيمة” (1939) الذي أخرجه كمال سليم، نسمع في أحد المشاهد في الخلفية الصوتية صوت الأطفال وهم يُرددون الأغاني فرحا بقدوم شهر رمضان.
وقد تطورت العلاقة مع الفوانيس بمرور الزمن منذ قِدم التاريخ مرورا بالفترات الأحدث نسبيا وحتى الآن، فالعلاقة مع الموجودات المحيطة تشوبها دوما صفة التبدل والتطور، هذا التطور يُعبر عنه فيلم “عسل أسود” (2010) الذي أخرجه خالد مرعي، إذ يظهر في أحد المشاهد طفل يلعب بفانوسه الجديد مع صديقه بطل الفيلم (الممثل أحمد حلمي)، لنكتشف أن الفانوس ما هو إلا دُمية تصدر عنها أغاني رمضان، ليندهش البطل من الإطار الجديد للفانوس، فالشكل والمضمون ذاته تطور بشكل مُذهل عن ما سبق، فالتطور يتلاحق بصورة كبيرة، ليس على مستوى الأشياء فحسب، بل على مستوى العادات نفسها.
“اصحَ يا نايم”.. اندثار المهنة التي أحياها الظاهر بيبرس
من الناحية التاريخية كان للظاهر بيبرس السلطان المملوكي الشهير الفضل في عودة مهنة المسحراتي إلى الوجود مُجددا، وقد اعتمد في هذه المهمة على الأئمة الشرعيين للقيام بهذا الدور لإيقاظ المسلمين لتناول السحور، وقد ظهر المسحراتي في بعض الأفلام وإن كان بشكل نادر بعض الشيء، بخلاف بعض المظاهر والعادات الرمضانية الشهيرة التي يكثر وجودها في عدد من الأعمال الفنية، ففي فيلم “العزيمة” نرى بطلي الفيلم محمد (الممثل حسين صدقي) وفاطمة (الممثلة فاطمة رشدي) يُصارحان بعضهما بحبهما أثناء مرور المسحراتي في الشارع، ويظهر صوته جليا في الخلفية الصوتية للمشهد.
وفي فيلم “قلبي على ولدي” (1953) الذي أخرجه هنري بركات، نرى في أحد المشاهد أوبريت “اصحَ يا نايم”، حيث تعمل الطفلة بسيمة (الممثلة هيام يونس) في مهنة المسحراتي وهي تُمسك بيدها الطبلة الصغيرة وتصدح بها في الطرق، وتوقظ أهل الحي السكني التي تقطن فيه حتى يتسنى لهم استكمال يومهم الرمضاني بوجبة السحور.
أما في الأعمال الفنية الأكثر حداثة من الناحية الزمنية فنادرا ما يتطرق السيناريو للمسحراتي، وكأنها مهنة في سبيلها للاندثار، لذا يُمكن القول إن السينما لم تغفل هذا المعلم الرمضاني بقصد أو عن جهل، بل عن تطور مجتمعي أصبح لا يعتد بهذه المهنة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار تطور الوسائل الحديثة الأكثر راحة والأيسر تكنولوجيا، وبالتالي أصبحت هذه المهنة رهن الاختفاء الجبري.
إعلان المدفع والمئذنة.. قدسية لحظة الإفطار بين الماضي والحاضر
في العام 1853 قرر الخديوي عباس باشا الأول إطلاق أول مدفع إفطار لإعلام الصائمين بميعاد الإفطار، ومع مرور الزمن تحولت عادة مدفع الإفطار إلى علامة مُسجلة شهيرة إيذانا بحلول موعد الإفطار، وقد جسدت السينما تلك اللحظات بشكل مكثف ودوري قديما وحديثا، ليس من ناحية رصد مشاهد الإفطار فحسب، بل تمتد تلك اللحظات لمتابعة تفاصيل الحياة اليومية في تلك اللحظة التي يترقبها الجميع بشوق ولهفة.
ومن أبرز الأفلام التي تناولت لحظة الإفطار فيلم “في بيتنا رجل” (1961) الذي أخرجه هنري بركات، حيث نرى في أحد المشاهد عائلة محيي (الممثل حسن يوسف) وهم ملتفون حول مائدة الإفطار، وينتظرون سماع صوت مدفع الإفطار، وحين يبدأون في تناول طعامهم، تُباغتهم طرقات لحوحة على الباب، ليكشفوا وجود إبراهيم حمدي (الممثل عمر الشريف) المناضل الهارب من أيدي البوليس السياسي الموالي للاحتلال الإنجليزي، وقد هرب من المستشفى المحتجز بها أثناء لحظة الإفطار تفاديا لاكتشاف هروبه أثناء ذلك الوقت المهم.
يكشف الفيلم عن تلك الأجواء بواقعية شديدة، وتلتقط الكاميرا الشوارع الخاوية من المارة، وكأنها مدينة مهجورة، فالكل لا يهتم إلا بشيء واحد، وهو تحقيق التوازن الطبيعي بتناول الإفطار.
أما في الزمن المعاصر، فنرى في فيلم “ضربة معلم” (1987) الذي أخرجه عاطف الطيب أفراد العصابة أثناء هروبهم من مطاردة الشرطة وقت الإفطار، تفاديا للتكدس المروري المتوقع فيما بعد، وهنا يُمكن اكتشاف الفارق الزمني بين فترة الأربعينيات ومثيلتها في الثمانينيات، حيث الشوارع فارغة ورائقة في الماضي، أما في الحاضر فأعد%D