صلاح الدين عووضة يكتب : جري وحوش!
صلاح الدين عووضة يكتب : جري وحوش!
جردت حياتي..
أو كشف حسابي أمس..
فاكتشفت أن عنوانه العريض – عرض خطواتي وأنا أجري – هو الجري..
وكان اكتشافاً محبطاً… قادني إلى إحباطٍ آخر..
وهي إيماني بالمثل القائل (تجري جري الوحوش غير رزقك ما بتحوش)..
فلم أكن أفلح في شيء سوى الجري..
وما زالت ذكريات الحوادث التي دعتني إلى أن أجري ماثلة في ذهني..
وكنت انجح دوماً في الجري هذا..
في الجري من حيث هو جري وحسب؛ لا من حيث بلوغ هدفٍ من ورائه..
فما من شيء جريت منه إلا وتركته خلفي..
وفي المقابل ما من شيء جريت نحوه إلا وكنت أنا الذي أظل – أبداً – خلفه..
حتى الأهداف التي أدركتها لم تكن ذات قيمة.
.
ومنها جائزة ثمرة المانجو التي نظم لنا مدير مدرستنا سباقاً من أجلها..
فحين أحرزت المركز الأول وجدتها نيئة… وخضراء..
وفي كرة القدم لم أشتهر بشيء سوى الجري هذا؛ فجعلوني مهاجماً..
ولكن جريي هذا لم يكن يثمر إلا بشرطٍ واحد..
وهو أن تكون أمامي مساحة كافية تسمح لي بالبرطعة إلى حين بلوغ المرمى..
وفي الحالة هذه فما من مدافع يستطيع اللحاق بي..
فإن لم يتوافر الشرط هذا فأنا عالة… وزائد عن الحاجة… وعبء على الفريق..
وفي لحظات الخوف كنت أطير… لا أجري..
وذات ليلة كنت عائداً إلى دارنا – بالبلد – عندما مررت بمحل خياطة مهجور..
وعدا أنه كان مهجوراً فهو وحيدٌ وسط ميدان كبير..
ومن خلف المحل هذا صُوِّب نحوي – على حين فجأة – سهم نور ساطع..
فلم أشعر بالأرض من تحت قدميّ وأنا أجري..
كنت أسبح في الفضاء بأسرع مما كان سيفعل عفريت نبي الله سليمان..
وذلك إن سُمح له بإحضار عرش بلقيس..
وجرافة باجور نوري جريت منها بسرعة إعصار باتريشيا الاستوائي..
وقد خلتها – كما ذكرت قبلاً – وحشاً مخيفاً..
والغريب أن امرأة صادفتها تملكها رعبٌ أشد من رعبي من الكراكة..
وكل ما أذكره أنها سقطت على الأرض..
فربما ظنت أن جريي المجنون ذاك هو – حتماً – جراء رؤيتي شيطاناً..
وفي ثورة أبريل جريت جرياً ماراثونياً..
ولعله إن كان على خطٍ مستقيم لبلغت ساحل أفريقيا الغربي بسرعة قياسية..
ثم كان جرياً في الفاضي – أيضاً – وبلا معنى..
فأنا – طوال حياتي – لا أدرك أهدافاً أمامي جريت نحوها طمعاً ورغباً..
ولكني أدع ورائي أهدافاً جريت منها خوفاً ورهباً..
سواء كانت أهدافاً مالية ذات مطمعٍ شخصي؛ أم سياسية ذات مطمعٍ قومي..
فحتى الهدف الوحيد الذي بلغته كان أخضر..
وهو المنقة – أو ثمرة المانجو – التي فزت بها في سباق محموم حول المدرسة..
والهدف السياسي الوحيد الذي بلغته كان أغبر..
وهو ثورة أبريل التي تورمت فيها قدماي من شدة الجري على مدى أيام..
وبات سياسيونا – في نظري – مثل الجرافة تلك..
محض وحوش مخيفة تستدعي – وتستوجب – الجري منها… لا نحوها..
وأحمد الله أنني لم أحضر ثورة أكتوبر الأخضر..
وإلا لكنت جريت في الفاضي – كذلك – جرياً بلا معنى… إذ ضاعت أيضاً..
كما أحمده على أنني تركت الجري في ثورة ديسمبر هذه..
أو – تحرياً للدقة – هو الذي تركني؛ وإن كان قلمي قد جرى عوضاً عني..
فمصيرها لم يكن بأفضل حالاً من سابقتيها..
وأسلِّم الآن بقدري؛ فأنا لا أحوش خلاف رزقي المكتوب رغم الجري..
وذلك بعد أن جريت جرياً شديداً..
جري وحوش!.
المصدر : الصيحة