مقالات

د. عبد الفتاح سليمان يكتب : *في حب جريزلدا ( الريد قسم ياعينيا).

*في حب جريزلدا ( الريد قسم ياعينيا).*

*د. عبد الفتاح سليمان*

العيش مع الكتاب والمبدعين هو أمر صعب للمرأة، إلا أن هناك نساء قبلّن هذا التحدي وارتبطن بازواج طابعهم القلق والجدية، وقمن بهذا الدور على اكمل وجه .
صوفيا تولوستوى عملت مترجمة وناسخة ومصورة فالتقطت اكثر من الف صورة لحياتها مع تولستوى ليبني، عليها جميع شخصياته النسوية، وفيارفا نابوكوف كانت مترجمة ومحررة وسائق وحارس حماية شخصية لزوجها الكاتب المعروف فلاديمير نابوكوف، اثناء رحلته لمطاردة الفراشات في الولايات المتحدة وكان يصفها دائما بأنها ضوء حياته ولولاها لما وصل إلى ما بلغه من شهرة ونجاح .
الكاتب الكبير احسان عبدالقدوس أحب زوجته لواحظ عبدالمجيد الملهمي من صورة لمحها في صالون منزل شقيقتها فاستدعاها على عجل ليعلن ميلاد حب بدأ بنظرة إلى إطار ..
وقد قوبل هذا الزواج بمعارضة واسعة فأمه كانت تريده أن يكمل مسيرتها الناجحة في مجلة روزاليوسف التي أنشأتها عام 1925م وشاطرها في ذلك ثلة من الصحفيين والادباء العزاب بقيادة التابعي ونجيب محفوظ والعقاد وكمال الشناوي بموافقة جبهة أخرى من المعارضة مثلتها أسرة الملهمي، ورغم ذلك فقد لجأ احسان إلى التابعي الذي كان هو الكاتب الاول في روزاليوسف، إلا أن التابعي زجره قائلا : _ اسمع كلام والدتك وبلاش لعب عيال، الزواج قيد على الانسان وانا عن نفسي أعزب، لكن التابعي تراجع عن نصائحه تلك عندما رأى الحب الكبير بين احسان عبدالقدوس ولواحظ عبدالمجيد الملهمي فشجعه على الزواج وطلب أن يكون عقد القران في بيته بالزمالك وهو ماتم بالفعل، وكان التابعي هو الشاهد الرئيس على تلك الزيجة ..
فامسك احسان بقلمه وخط قائلا : لقد تمردت على اهلها وتزوجتني دون علمهم مع ثقتها بأنهم سيرفضون هذا الزواج، فقد كنت في الثانية والعشرين من عمري ودخلي لايزيد عن عشر جنيهات، وكنت أقيم في بنسيون فيكتوريا فكانت تأتيني كل يوم لتطبخ لى وتنظم كل أموري ثم تعود إلى منزلها دون أن يعلم احد بارتباطنا، ولما علمت شقيقتها بعد فترة بهذا الزواج أغمى عليها ..
واعتبر عبدالقدوس يوم زواجهما هو يوم مولدهما الحقيقي فكتب في تلك الذكرى أنت وأنا ولدنا اليوم لم تكن لنا حياة إلا معاً أنت كل الحياة وحبي وأهداها أشهر قصصه ( لاتطفئ الشمس ) وكتب في مقدمة قصته الشهيرة إلاهداء إلى السيدة التي عبرت معي ظلام الحيرة والحب في قلبينا حتى وصلنا إلى شاطئ الشمس.. إلى الهدوء الذي صان لي ثورتي والعقل الذي أضاء فني والصبح الذي غسل أخطائي.. إلى حلم صباى وذخيرة شبابي وراحة شيخوختي..
لقد اشتهر البريطانيون بالتحفظ والتماسك وضبط النفس، كثيرون فسروا رباطة جأشهم تلك على أنها عدم نضوج عاطفي مسنودين بعباراتهم المعروفة ( إبق هادئا وواصل العمل وتلك التي تقول تلمس طريقك نحو الهدف وثابر على العمل الشاق ).
جريزلدا الطيب كسرت هذا المألوف وباحت بحبها جهرا لفتى افريقي اسمر قالت أنها احبته لجديته ووضاءة عينيه وبياض ضحكته فتركت لندن مدينة الضباب والتاريخ والعطور والشيكولاتة وساعة بيج بن والقصور الملكية وكل إرث وليام شكسبير وتشارلس ديكينز وجاءت معه الى أرض النخيل والصحراء والرمال .

وخليتلك بلد بى حالو ..
قمت رحلت بى جاى ..
تحكي عن قصة زواجها من عبدالله الطيب وتقول ( عند حصول عبدالله على البكلاريوس قال الاساتذة هذا الشخص يعرف اللغة العربية أكثر منا ويجب أن يحصل على الدكتوراة، وفجأة وجد نفسه مسجلا للدكتوراه وكان فرحاً، وعندما بدأ يكتب رسالته بالانجليزية كان يقول لي ( تعالي شوفي الكلام دا صاح ولا في اسلوب انجليزي احسن من كدا )
وأنا كنت لا اعرف أي شئ وعرفت من رسالته أن ابوالعلاء المعري شاعرا لكنه لم يعجبني مع أنه كفيف وأن ابوالعلاء كان يكره النساء ولمست هذا الشئ من كتاباته فيما بعد، وفي ذلك الوقت وعندما كنت أراجع رسالة الدكتوراه حبينا بعض .
ياهزاراً أهدى إلى المهجة

انفاسا وعمرا

أهرفت دنياى انفاسا وسحرا

وتذوقت غراما منك مشبوبا ومرا

ياهزارا رائع الطلعة فتانا أغر

فجر الالحان في قلبي

إعلاناً وسرا

ياجناحا طوق الاضلاع

افراحاً وبشراً

ياشراعاً اوصل الزورق

للشاطئ فجرا

ما الذي أهديه إلا ذوب

أضلاعي شعرا
( معتصم الأزيرق ).

لم تكن جريزلدا إمرأة فائقة الجمال ولم يكن عبدالله رجلا كلفا بالنساء بما ينسيه واجبه ومع ذلك فقد وقع في الحب، سأله إعلامي عربي قائلا :_ عبدالله الطيب السوداني الكلاسيكي في ثقافته المتجذر في علوم اللغة والدين يذهب إلى بريطانيا ويقترن بفتاة انجليزية فاجابه ببساطة الزواج هذا قسمة فلا نستطيع أن نتحدث فيه لأن المغني السوداني يقول ( الريد قسم ياعينيا) ، فالمحبة شئ مقسوم من الله فأنا عشت في لندن خمس سنوات فلم اخلو من عاطفة ومن رغبة في الزواج فلقيت إمرأة في جامعة لندن فاحببتها وتزوجتها .
تعود جريزلدا لتقول عندما اقترب الانتهاء من رسالة الدكتوراه خفت ان يرجع الى السودان وان لا التقيه فقلت ليه ( شوف يجب أن نتزوج قال لي أنا عندي اخوات لن تسطيعي العيش هناك فرجع الى السودان لتزويج إحدى أخواته وعندما عاد تزوجنا دون علم اهلي في البداية وجئت معه الى السودان سنة 1950 فبدأ في التدريس في جامعة الخرطوم وعملت انا في تدريس الفنون وبعد فترة نقل الى بخت الرضا بالدويم فساعدته هناك على تأليف كتابه المرشد الى فهم اشعار العرب وهيأت له الجو وكان قد قدم خدمة الى استاذه مستر قيوم في جامعة لندن حيث ساعده في انجاز كتابه عن سيرة بن هشام وعندما أنهى عبدالله كتابه المرشد بادر مستر قيوم بالكتابة إلى د. طه حسين ليتولى تقديم مؤلف د. عبدالله الطيب المرشد الى فهم اشعار العرب وقد كان .
لقد كانت جريزلدا وفيه لزوجها فعندما فصل من جامعة الخرطوم اواخر الستينات هاجرت معه الى نيجيريا فبدا التدريس في جامعة كانو تلك الهجرة التي شهدت تحولات كبيرة في حياة جريزلدا وعبدالله الطيب، فقد تاثرت ببساطة مسلمي شمال نيجريا واشادت بقوة ايمانهم وثقتهم بانفسهم وباسلامهم واحترامهم ل عبدالله الطيب .
تقول في تلك الفترة توفيت امي وابوى وشعرت ألا احد سينزعج لما ازمعت الاقدام عليه فقلت ل حاج حسن كاسو وكان زميلا ل عبدالله في الجامعة انني أريد أن أعلن اسلامي فرحب بقراري ودعاني للغداء في اليوم التالي انا وعبدالله وطلب مني احضار مدثر عبدالرحيم وشخص آخر فاعلنت اسلامي في كانو سنة 1977 وسماني عبدالله (جوهرة ) وذهبنا إلى الحج.
بعدها التحق عبدالله الطيب بالتدريس في فاس بالمغرب ولاحظ السفير السوداني في المغرب ان البلاط الملكي يستدعي محاضرين من الخارج لالقاء الدروس الحسنية في حضور الملك فتحدث الى وزير الاوقاف المغربي وقال له لماذا تأتون بالعلماء من الخارج وبيننا الدكتور عبدالله في فاس ؟ فابلغ البلاط الملكي الذي طلب من عبدالله الطيب ان يقدم اول محاضرة عن قصص القرآن فلما انهاها نزل الملك من كرسيه على غير العادة وقام بمصافحة عبدالله الطيب واستمر في تقديم الدروس الحسنية لتسع سنوات لاحقة .
تلك كانت سيرة خواجية احبت عبدالله الطيب وبادلته الوفاء وفي شخصه احبت السودان وبقيت فيه حتى مماتها. وبالمقابل فقد بادلها حب بحب ووفاء بوفاء فقال فيها :_

ألا بلغا عني المليحة بأن

هواها في الفؤاد مقيم

ساذكرها والشيب شامل فرعها

كعهدي به إذ كان وهو بهيم

• د . عبدالفتاح سليمان
.قانوني وكاتب .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى