مقالات

د. عبدالفتاح سليمان يكتب : حين لم يستيقظ أبي

د. عبدالفتاح سليمان يكتب : حين لم يستيقظ أبي

 

 

في قروب الجامعة رثاء حزين خطته يد الزميلة ندا سربل في ذكرى عيد ميلاد والدها مولانا محمد علي سربل الذي جاء بعيد رحيله بشهور قليلة ومما جاء فيه :- السابع والعشرون من أكتوبر.. يوم ميلادك .

ما تخلفنا عن الإحتفال به معك يومآ ، نتحلق حولك وأنت تبتدره بعد التهانى والتبريكات بقصيدة الشاعر المصرى “كمال حليم” .. وصوتك الجهور يملأ المكان وتستلم المجال :

“عيد ميلادى الذى أذكره
يوم كافحت وأحببت الكفاح
وتمشت فى دمائى ثورة
تنسف الظلم فتذروه الرياح
وتحسست جراحى
وأنا فى قيودى فتحملت الجراح .”

وبعدها ما شئت من قصائد بإنجليزيتك الرفيعة.

ثم يبدأ سيل الحكايا والذكريات التى لا تنتهى ، مدنى.. حنتوب.. جامعة الخرطوم, ثم السودان الذى جبته طولا وعرضآ ، البلاد التى خدمتها وأحببتها كأن لم يحب البلاد أحد.

كنت حصيفآ نبيهآ، مميزآ ومختلفآ منذ النشأة ..
طالبآ فالحآ ، وقاضيآ عادلآ ، عالمآ فقيهآ ، معلمآ ومرشدآ ، بليغآ مثقفآ وأديبآ … ورائعآ فى كل الأحوال.

نافذ البصيرة .. ترى الأشياء بعين الحكمة وتضعها فى مقام الحق والعدل الذى ما كنت عنه تحيد.

ندى التي اعتادت اختصار روزنامة الحديث في (كلمتين ) أطنبت واسترسلت وفاضت في تعداد مآثر والدها وحق لها أن ترثي أباها وكان في اطنابها جمال وروعة ومتعة ودقة في الوصف وحلاوة في التعبير عن مشاعر ملتاعة

ومحزونة لفقد الأب والسند وهى معذورة على كل حال . فلبيد الشاعر الجاهلي المعروف حين أحس بدنو أجله أراد أن يخبر ابنتيه شعرا كيف تؤديان إليه حقه من الحزن عليه بعد موته فقال :-

تمنى ابنتى أن يعيش أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ؟
فإن حان يوما أن يموت أبوكما
فلاتخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لاحليفه أضاع
ولا خان الصديق ولاغدر

ولم يكن للبيد ابن ذكر على اختلاف بين الرواة ؛ ولكن أبوالفرج يقول أنه لما حضرته الوفاة ( أى لبيد ) قال لابن أخيه يابنى إن أباك لم يمت ولكنه فنى ، فإذا قبض أبوك فاقبله القبلة وسجة بثوبه ولا تصرخن عليه صارخة

وانظر جفنتى اللتين كنت اصنعهما فاصنعهما ثم احملهما إلى المسجد فإذا سلم الإمام فقدمهما إليهم ، فإذا طعموا فقل لهم أن يحضروا جنازة أخيهم وانشد قائلا :-
أبنى هل أبصرت أعمامي بني أم البنينا
وأبي الذي كان الأرامل في الشتاء له قطينا

فبقيت بعدهم وكنت بطول صحبتهم ضنينا
فافعل بمالك مابدا لك مستعينا أو معينا
وإذا دفنت أباك فاجعل فوقه خشبا وطينا
وسقائفا صما رواسبها يسددن الغصونا
ليقين حر الوجه سفاف التراب
ولن يقينا .

شعر فيه ثقة وحزن واطمئنان إلى الموت ، وهو مايبين كمال إسلام لبيد بعد الجاهلية ، وقيل أن لبيدا عاش مئة وخمس وأربعين سنة تسع وتسعون منها في الجاهلية وست واربعون منها في الاسلام . ولكن ابن سعد في

طبقات الشعراء ينقص من حياة لبيد أربع عشرة سنة ، فإن صحت روايته فهو قد عمر إلى أول عهد معاوية ( طه حسين . حديث الأربعاء – ص 57 ).
وأى ما كان من أمره فإن الموت هو الذي الجأنا إلى سيرة لبيد .

قال تعالى في محكم تنزيله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما إف ولاتنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) صدق الله العظيم ( الآيتين 23 و 24 من سورة الاسراء ).

وقال نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في ابنته فاطمة ( بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ).
وقد نظمت الشاعرة ريان عبدالرازق الشققي مفتخرة بأبيها :

وأنا الذي أباهي فيك أنك والدي فمن الذي سيلوم ؟.
وقال محمود درويش :-
لو أمطرت ذهبا من بعد ماذهبا
لاشئ يعدل في هذا الوجود أبا.

في بلاط الصحافة التقيت قامات سامقة من شعراء الأغنية في بلادي مثل ( أبو آمنة حامد وسعدالدين إبراهيم وعوض جبريل والنعمان على الله ) فهالني أنهم أناس عاديون يلفهم التواضع ويكسوهم الرضا فاستحيت

من نفسي ، وظني أن بساطتهم هذه هى التي رفعتهم في أعين الناس وحببت الخلق فيهم ، على ماهم فيه من هالة واعجاب وإجلال أدركت معه حكمة الشاعر حين قال :-
لا يجمع الله بين الشعر والمال .

وادركت أن بياض جيوبهم قد انعكس على نقاء سرائرهم وصفاء طبعهم ورقة شعورهم وأنهم لو كانوا أغنياء لحرمنا من هذا الشعر الجميل .

في جريدة (الحياة والناس) وجدت طاولة مكتبي في مواجهة رئيس التحرير مباشرة فإذا هو الشاعر سعدالدين ابراهيم الذي تغنى ابوعركي البخيت برائعته :

الأليفة ندى الشروق
الغنا ليه زراع أرضنا
دي الأصيلة زى الشعاع
تدخل رواكيبنا واوضنا

( شوف بساطة الكلمات وارتفاع الشاعرية لدى سعدالدين ! ). { راكوبة ورعراع وضى شمس ! } .
حين تغنى الرائع عركي بهذه الكلمات قامت الدنيا ولم تقعد وتحسست العذارى أطراف جدائلهن .

وعندما كتب ( أبوى شعبتنا روح آمالنا ) أبكى الناس واشقاهم ، هذا هو سعد الدين الذي عرفت وأنك إذا أردت أن تستمطر دموعه فاستحثه على قراءة هذه الأبيات ، فما يلبث أن يبدأ حتى يدس وجهه تحت كمه بحثا عن منديل .

أبوى شعبتنا روح آمالنا ضو البيت
ضراعو الخدره ساريتنا
نقيل وفي ظلاله نبيت
يدق باب الزمن
بفتح لنا البيبان
دروب في الدنيا

شان نمشي نجادلو مشاغل التوهان
يسوي من الفرح عمة ويدرع شال من الأحزان
يدس الشال عشان مانشوف
عذابو وأنة الحرمان

أبوى عاشق الشمس والنيل عشانو بردد الغنيات
هو زاتو شمس تصارع الليل تصر تبدد الظلمات
أبوى زغرودة السمحات
عظمتو سر سعادتنا يقابل الصعبة بالبسمات .

إن أي فراق يهون إلا فراق الأب فإنه يكسر الظهر .

كان أبي يعطيني مصروفي المدرسي ثم يطرح جزلانه ( محفظته ) لينفحني المزيد ، مرة ومرتين وثلاثة ، ويقول. في كل مرة ( إمكن ماتكفيك ! ) ، وحين غادر الدنيا احسست أنه كم كان الأب عظيما . ورسولنا الكريم صل الله عليه وسلم يقول : ( عجبت لمن أدرك أبواه ولم يدخلاه الجنة ).

كنا نخفض أصواتنا كى لا يفيق والدي ، وذات يوم صرخنا ملء حناجرنا ولم يستيقظ أبدا .

Jamal Kinany

صحيفة العهد اونلاين الإلكترونية جامعة لكل السودانيين تجدون فيها الرأي والرأي الآخر عبر منصات الأخبار والاقتصاد والرياضة والثقافة والفنون وقضايا المجتمع السوداني المتنوع والمتعدد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى