د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: حوارات في حضرة الفقر والكرامة

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب: حوارات في حضرة الفقر والكرامة
في سكون الليل، جلس “الفقر” على صخرةٍ أمام “الكرامة”. كانا متقابلين كخصمين يعرف كلٌّ منهما سرّ الآخر.
قال الفقر بصوتٍ أجشّ:
> “يا صاحبة الأنفة، ما بال الناس يلعنونني؟ أأنا من سرق أرزاقهم؟ أم أنهم من تخلّوا عن عقولهم حتى صرتُ سيّدهم؟”
ابتسمت الكرامة وقالت:
> “لستَ أنت الجاني يا فقر، بل من جعلوك نظامَ حياةٍ، ولبّسوك ثوب القدر. أنتَ لم تخلق الفاقة، هم الذين قتلوا العمل في قلوبهم، وجعلوا الانتظار دينًا جديدًا يُعبد باسم المساعدات.”
سكت الفقر لحظةً، ثم همس:
> “كنتُ يومًا عابرًا، يزور الناسَ في شظفٍ مؤقت، ثم يرحل حين تأتي الأيدي بالزرع والمطر.
لكنهم اليوم صاروا يُكرّمونني بالمؤتمرات والإحصاءات، ويستأنسون بي كأنني أحد أفراد البيت!”
قالت الكرامة:
> “ذلك لأنهم نسوا أن الثروة لا تُقاس بما في الجيوب، بل بما في العقول.
الثريّ ليس من يملك، بل من يُنتج.
ومن جعل يده العليا خاضعةً لتوقيعٍ أو مساعدة، فقد فقدَ حرّيته ولو لبس تاجًا من ذهب.”
تنهّد الفقر وقال:
> “لكن الوزير أعلن أن 71% من الناس صاروا تحت سلطاني، فهل تراني قد انتصرت؟”
ردّت الكرامة بحزمٍ أفلاطونيّ النغمة:
> “بل خسرتَ أكثر مما ربحت. لأن من يعيش في جوعٍ ويحتفظ بكرامته، قد هزمك.
أما من شبع وتنازل عن إنسانيته، فقد صار أفقر منك.
فالفقر الحقيقي ليس جوع البطن، بل خنوع الروح.”
ثم رفعت رأسها نحو الأفق وقالت كمن يخاطب الأمة:
> “يا أهل السودان، لا تجعلوا الفقر مبررًا للخذلان، ولا المساعدة عذرًا للكسل.
ابنوا وطنكم بعرقٍ لا بانتظار،
فالأوطان لا تُبنى بالأمنيات، بل بالجهد والمعرفة،
ولا تنهض الشعوب حين تُطعم، بل حين تُعلَّم.”
ابتسم الفقر، وأطرق برأسه في خجلٍ وقال:
> “ربما آن لي أن أرحل إن وُلد في الناس وعيٌ جديد.”
قالت الكرامة وهي تنهض من مجلسها:
> “ارحل إذن، فها هو الوعي يُطلّ من رماد الحرب، يبحث عن معنى جديدٍ للعيش… لا يعيش فيه الإنسان ليأكل، بل يأكل ليحيا.”
وهكذا…
في لحظةٍ رمزية من فلسفة الحياة، تبيّن أن الفقر ليس قدَرًا، بل سؤالًا.
وسيبقى الوطن واقفًا ما دام بين أبنائه من يفهم أن الكرامة لا تُشترى، بل تُزرع… في الوعي، لا في الجيوب.





