د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين تهمس الدولة… ويصغي التاريخ

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين تهمس الدولة… ويصغي التاريخ
لا يأتي التحول دائمًا على هيئة ضجيج. أحيانًا يدخل التاريخ من باب جانبي، بهدوء لا يلفت انتباه العجولين، لكنه يغيّر اتجاه الغرفة كلها. هكذا يمكن قراءة ما يقوم به رئيس مجلس الوزراء اليوم: ليس استعراض قوة، ولا سباق تصريحات، بل محاولة هادئة لإعادة ضبط معنى الدولة في عقل السوداني قبل عين العالم.
في المشهد العام، اعتدنا أن تُدار السياسة بالصوت العالي: بيانات، مؤتمرات، خصومات علنية، ووعود أكبر من قدرة الواقع. لكن ما يحدث الآن مختلف. هناك رجل دولة يتصرف وكأنه يعلم أن أخطر ما خسره السودان ليس الأرض ولا الموارد، بل الثقة: ثقة الناس في دولتهم، وثقة العالم في حديثها عن نفسها.
رئيس مجلس الوزراء لم يبدأ من سؤال: كيف أُرضي الجميع؟ بل من سؤال أصعب: كيف أُنقذ الدولة حتى لو أغضبت البعض؟ وهذا فارق جوهري. فالدول لا تُبنى بالتصفيق، بل بالقرارات التي لا تحبها الفوضى، ولا تعجب تجّار اللحظة.
ما يُطرح اليوم عن السلام ليس خطابًا عاطفيًا، بل امتحان أخلاقي وسياسي للجميع. من يريد السلام حقًا، عليه أن يقبله في إطار الدولة، لا فوق أنقاضها. ومن يرفض، سيجد نفسه عاريًا أمام العالم، بلا سردية ولا مبرر. هنا تكمن الذكاء السياسي: نقل الصراع من ساحة السلاح إلى ساحة المعنى، ومن لغة الغلبة إلى لغة الشرعية.
في الداخل، الصبر مطلوب. فالدولة التي تُعاد صياغتها لا تفعل ذلك في نشرات الأخبار، بل في العمق البطيء للمؤسسات، وفي إعادة تعريف ما هو مقبول وما هو مرفوض. ليس مطلوبًا من الناس أن يُسبّحوا بحمد الحكومة، بل أن يفهموا أن البديل عن هذا المسار ليس خلاصًا سريعًا، بل فوضى أكثر أناقة فقط.
ما يجري اليوم ليس نهاية الطريق، لكنه قد يكون المرة الأولى منذ زمن طويل التي تمشي فيها الدولة بخطى محسوبة، لا راكضة خلف الحريق. وحين تمشي الدولة… يلحق بها التاريخ، ولو بعد حين.





