د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين تستعيد الدولة ظلّها الأخلاقي… عودة المفصولين عنوانٌ للإنصاف

د. الشاذلي عبداللطيف يكتب:.. ترانيم الظلم..حين تستعيد الدولة ظلّها الأخلاقي… عودة المفصولين عنوانٌ للإنصاف
في تاريخ الدول لحظات لا تُقال بصوتٍ واضح، لكنها تُفهم كما تُفهم الإشارات في عيون الحكماء. لحظات تتغير فيها النبرة قبل أن يتغير القرار، ويتقدم فيها الصمت خطوةً واحدة تكشف ما عجزت عنه الخطب الطويلة. وما يحدث اليوم حول قضية الضباط المفصولين تعسفياً هو من هذا اللون: حديثٌ لا يُنطق، لكنه يُسمع. وخطوات لا تُرى، ولكن يُحسّ وقعها في الأرض.
فالذي حدث لهم لم يكن مجرد فصل، بل انقطاع نبضٍ من جسد المؤسسة. انطفأ ضوء، ثم اعتادت الأبصار العتمة، لكن الضوء لا ينسى طريقه. واليوم، يعود لا على شكل إعلان، بل على شكل ظلالٍ خفيفة تتقدم على الحائط؛ ظلال تقول إن صاحبها يقترب، وإن الباب الذي ظنه الناس مغلقاً لم يُقفل تماماً.
القضية التي قيل إنها انتهت، تتصرف الآن كصفحة ترفض الطيّ، تعود من طرف الكتاب لتذكّر بأن العدل قد يغيب… لكنه لا يغادر. والحقّ إذا ابتعد، يعود أولاً كرائحة، كإحساس، كصوت خافت يسبق وصول صاحبه بلحظات.
الضباط الذين خرجوا ظلماً لم يغادروا فعلاً؛ بقيت لهم أماكن تشعر بغيابهم، ومكاتب تعرف أسماءهم، وملفاتٌ لا تستريح إلا إذا عاد أصحابها. واليوم، تلك الأماكن تتنفس ببطء، كأنها تستقبل خطوات مألوفة.
خطوات لم تصل بعد، لكنها على الطريق.
الدولة أيضاً يبدو أنها استعادت شيئاً من صفائها الداخلي؛ فقبل أن تُعالج الأخطاء، بدأت تُصغي إلى صداها. وقبل أن تُصحح القرار، صححت الشعور نحوه. وهذا هو جوهر التحول الحقيقي في مؤسسات الحكم: أن يبدأ الإصلاح من الوعي، لا من الورق.
ما يحدث اليوم ليس إعلاناً لعودة، لكنه يشبه حالة الفجر قبل شروق الشمس: لا ضوء واضح، ولا ظلام كامل… بل بداية تُنبئ بما سيأتي. وكل المؤشرات تقول إن ما انقطع يوماً بدأت أطرافه تقترب، وإن الحق الذي انتظر طويلاً بدأ يخط طريق الرجوع على مهل، بلا ضجيج، بلا إعلان… لكن بثقةٍ تليق بعدلٍ تأخر، لا بضائع السياسة.
وفي هذا كله، تبدو الدولة وكأنها تعيد ترتيب روحها قبل أن تعيد ترتيب ملفاتها؛ تستعيد ظلّها الأخلاقي، وتعيد الحقّ إلى مكانه الطبيعي، دون أن تحتاج إلى كلمات كثيرة.
فالعودة الحقيقية لا تبدأ بالتصريح… بل تبدأ حين يتغير الشعور، وحين يتحرك السكون، وحين يشعر المظلوم بأن الطريق أمامه لم يعد مغلقاً كما كان.
وهذا ما يحدث الآن.





