د.أيمن لطيف يكتب : في ذكرى الرحيل المُــر: عايز أقضِّي عِميري جَمبِك…
بالقلـــم الأسمـــر
د.أيمن لطيف يكتب : في ذكرى الرحيل المُــر: عايز أقضِّي عِميري جَمبِك…
قال رسول الله (ﷺ):
((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ))..
قبل أيام وتحديداً في الثامن من شهر مارس حلَّت بنا الذكرى السنوية الثالثة لرحيل (رُوح الرُّوح) ..أمي الحبيبة.. تلك النسمة التي مسحت على قلوبنا فوهبتها الراحة والسكينة، وطبطبت على أرواحنا فمنحتها الطمأنينة، وأحتضنت أتراحنا فأحالتها أفراح، وسهرت ليالينا فأبدلت ظلامها نور وحزنها سرور،
و رسمت على وجوهنا (أنا وإخوتي وأخواتي و أبي وكل من عرفها)- رسمت على وجوهنا إبتسامة شكر و حُب وأمتنان لتلك الروح الطيبة التي مافتئت أن رحلت “فجأة” ؛
تلك الروح التي سكنها الحب للجميع، فكان بيتُها قِبلةً للزائرين، وملاذاً للقاصدين لاتصُد أحداً ولاترُد قاصدا، وكان فناءُ منزلها واحةً للمُتعبين يستظِلُّون من وعثاء الحياة بكرمِها الفيَّاض، يفترِشون الإحترام ويلتحفُون السلام ويشنِّفُون آذانهم بطيب الكلام ويملئون أعيُنهم بنضارةِ الإبتسام،،
هكذا كانت.. “ريحانة”.. أو كأنها حاملُ المسك الذي إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، كانت تستقبل الجميع بإبتسامة «تخرج من القلب الى القلب» ، إبتسامة بيضاء كما نيتها، لاتعرف الإصفرار ولا التلوُّن أو الإحتقار، فالجميع عندها سواسية “في الحُب”..
كانت إبتسامتها كما الصدقة الطيِّبة التي لايتبعها منٌّ ولايغشاها أذى، تبذلها في وجوه الجميع بلا نفاق ولا “فرز” أو شِقاق..
ومن بيانِ مكارمِ أخلاقها التي لم تخفَ على أحد أن سألتها ذات يوم:
إنتي يا أمي ليه مابتقعدي مع النسوان في قعدات “الجَبَنَة” والونسات؟!
فأجابتني بإبتسامة هادئة:
الونسة الكتيرة بتجيب الكلام في الناس وبتدخلنا في القطيعة عشان كده بشرب قهوتي مع النسوان سريع وبقوم طوالي، وأنا كلمتهم عديل وهم عارفين كده..
هكذا كانت..
لكأني بها تقتفي أثر حبيبنا المصطفى (ﷺ) الذي كان خُلُقُه القرآن..
كانت تُقدِّم الخير وتبذل المعروف للجميع بلا أستثناء، وكان أكثر مايمكن أن تقوله في لحظة غضب حيال شخص (ظلمها أو أخطأ بحقها):
مابستاهل.. لكن حق الله بنسوِّي..
بعد رحيلها- رأيتها في المنام ذات مرة- فسألتني:
يا أيمن ياولدي إنت عارف أنا هسي وين؟!
-فأجبتها بثقة عمياء«وبلا تردُّد»:
كيف ماعارف يعني!! إنتي في الجنة..
-فسألتني وهي تبتسم:
وعرفت كيف؟!
-فقلت: يعني يا أمي إنتي حتكوني وين؟ ما أكيد في الجنة..
-فضحكت بهدوءها المعتاد وقالت:
لكن والله فترنا من الجنة دي..
-فسألتُها متعجِّباً:
كيف يعني فترتو من الجنة يا أمي؟! في زول كمان بيفتر من الجنة؟!
-فقالت وهي تضحك:
والله الملائكة اليوم كلو داخلين ومارقين فوقنا…
◼️هذه هي أمي….
كانت (دميرةٌ) من الأخلاق الطيِّبة التي تفيض بلا حساب فتُغرِق كل من يعرفها بطيبها وكرمها الحاتمي،
كانت خفيضة الصوت حتى أني لم أكن أسمعها -جيداً- حينما أتحدث معها عبر الهاتف وانا خارج المنزل- في المستشفى أو الشارع- فكنت دائماً ما أطلب منها رفع صوتها حتى أستطيع سماعها،
ومن جميل القدر أنني لم أسمع صوتها يعلو- في حياتها- الا وهي في سكراتِ الموت عندما كانت تنطق بشهادة التوحيد بمدىٰ صوتها:
لااااااا إله الا الله.. لاااااا إله الا الله.. ومن العجيب أنها إتَّسمت بالهدوء طيلة حياتها- فحتى نبضاتها كانت منخفضة جداً وكنت أعاني حينما أقوم بقياس ضغط الدم لها، وأذكر أنني وهي في سكرات الموت تلك لم أستطع سماع نبضاتها بوضوح سوى
ذلك الإنخفاض الحاد في جريان الدم الذي أذكره تماماً وهو يخترق أذناي كجريان الماء الهميل قبل أن تفارق الحياة بلحظات، فكان آخر ماسمعته منها هو ذلك النبض (الهميل) ممزوجاً بشهادة التوحيد (لا إله الا الله)،،
~وفي ذلك اليوم “الأليم” أذكر تماماً أن الجيران تجمَّعُوا على صوتها العالي «وهي تصدح بشهادة التوحيد»- حيث كان الصوت مجلجِلاً، يُزلزِلُ أركان الجُدران ويخترقها الى خارج المنزل،
وأذكر تماماً بأن خالتي عشة “رحمها الله”- والتي كانت تجاورنا بالسكن- قالت لي بعد أيام من وفاة أمي:
انا سمعت صوتها وهي بتكورك (لا إله الا الله) إفتكرت أنه في زول من أهلنا مات وجابوا ليها الخبر،،،
ولم تكن خالتي عشة-حينها- تعلم بأن أمي كانت تنعىٰ نفسها وتلفظُ أنفاسها الآخيرة وهي تنطق بشهادة التوحيد (بأعلى صوتها) وتردفها بكلمتين لاثالث لهما:
ده الموت.. ده الموت…
حتى أسلمت روحها الى بارِءها بعد أن ردَّدت الشهادة أكثر من مائة مرة..
هذه هي أمي (روح الروح)، التي لولا بعضُ اليقينِ الذي وقَـرَ بالقلب، وكثيرٌ من الصبرِ الجميل الذي قذفه الله وثبَّت به فؤادي و إخوتي وأبي الصابر “الجَلَد” لما أستوعبنا حقيقة أن نحيا من بعدها ولو لثانية واحدة، ولما قبِلت عقولُنا “من الأصل” حقيقة
رحيلها عنَّـا ونحن لمَّـا نزل في ريعان الحاجة لحُبِّها وعطفِها ورعايتها وحنانها وطيبتها ورقة قلبها ، ولازالت آذاننا ظمئىٰ لسماعِ صوتِها وأعيُننا عطشىٰ للإكتحال بمرءاها والتمتُّعِ بالنظر الى طلتها الباهية وأبتسامتها “البدرية”..
غير أنها سُنَّـةُ الحياة .. الموتُ نهايتُها الحتمية والرحيلُ غاية منتهاها.. وهي قصيرةٌ وإن طالت، فجميعنا من تُراب والى تُراب، فإما جنَّةٌ ونعيم وإما نارٌ وعذاب، فاللَّه نسأله أن يجمعنا بـ (رُوح الرُّوح) على سُررٍ متقابلين في أعلىٰ علِّيين يوم لاينفعُ مالٌ ولابنون الا من أتى اللَّه بقلبٍ سليم..
〰️نهاية المداد:
كنت أود أن أقول لأمي:
عاوز أقضِّي (عميري) جَمبِك..
-وهي على قيد الحياة- أما وقد رحلت.. فلا أعتراضَ على حُكمِ الله، بيدَ أنِّي أسأله- جل في علاه- أن أقضي (عُمري السرمدي) معها وبجانبها في جنةٍ عرضُها السمـٰواتِ والأرض ، وأن يعوِّضنا جزاء الصابرين المحتسبين الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)..
والحمدُ لله ربِّ العالمين..
Dr.Ayman.A.latif
Ramadan.1444