بهدوء وتدبّر .. محمد عثمان النبوي يكتب: التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (11 من 13) الاقتصاد الإبداعي وتمكين الشباب

بهدوء وتدبّر .. محمد عثمان النبوي يكتب: التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (11 من 13) الاقتصاد الإبداعي وتمكين الشباب
لم تعد القوة الاقتصادية في عصرنا تُقاس بعدد المصانع وحدها، ولا بحجم الأراضي الزراعية، ولا حتى بوفرة الموارد الطبيعية، بل — وبصورة متزايدة — بما تنتجه العقول لا بما تنتجه الآلات. فالاقتصاد الإبداعي، الذي يجمع بين الذكاء الاصطناعي والمواهب البشرية والمنصات الرقمية، أصبح أحد أسرع قطاعات النمو في العالم، وصار مصدر دخل رئيسيًا لملايين الشباب، ونافذة واسعة للدول التي تبحث عن نهضة سريعة منخفضة التكلفة عالية القيمة. وفي عالم تتقلص فيه فرص العمل التقليدية، يتحول الإبداع إلى وظيفة، والموهبة إلى مشروع، والفكرة إلى شركة صغيرة يمكن أن تنافس شركات كبرى.
فالذكاء الاصطناعي لم يلغ الإبداع الإنساني، بل فتح له فضاءً جديدًا واسعًا. فصانع المحتوى اليوم يستطيع — بهاتفه فقط — أن ينتج فيديو يشاهده ملايين الناس، والمصمم يمكنه أن يبني هوية بصرية كاملة خلال ساعات، والكاتب يستطيع أن يضاعف إنتاجيته، والمبرمج يمكنه أن يبتكر تطبيقات صغيرة تحقق انتشارًا واسعًا. والذكاء الاصطناعي لا يحلّ محلّهم، بل يمنحهم أدوات أقوى، ويختصر عليهم ما كان يستغرق أيامًا إلى دقائق.
وفي السودان، حيث يتفوق الشباب في الموهبة رغم ضعف الفرص، يمكن للاقتصاد الإبداعي أن يكون بوابة لآلاف الوظائف الجديدة التي لا تحتاج إلى رأس مال، ولا بنى تحتية، ولا معدات ضخمة، بل تحتاج إلى منصة، وجهاز كمبيوتر أو هاتف، وبيئة تسمح لصاحب الفكرة أن ينطلق دون عراقيل. ويمكن لصناعة المحتوى، والتصميم، والإنتاج المرئي، والبرمجة، والتعليم الرقمي، والألعاب الإلكترونية، والتسويق الرقمي، أن تتحول إلى قطاع اقتصادي حقيقي يضيف قيمة إلى الناتج القومي بدل أن تبقى هوايات فردية متناثرة.
فالاقتصاد الإبداعي يقوم على مبدأ بسيط: تحويل الموهبة إلى دخل. وهذا يتحقق حين تتوفر الأدوات: منصات دفع إلكتروني، ووسائل ربط بين الموهبة والسوق، وحماية للملكية الفكرية، وقوانين واضحة لعمل المستقلين، ودعم للمدفوعات الصغيرة التي تشكل أساس هذا القطاع. وفي البيئة الرقمية السليمة، يستطيع آلاف الشباب السودانيين أن يقدموا خدماتهم للعالم كله، لا للسوق المحلي فقط، وأن ينافسوا في منصات إقليمية وعالمية في مجالات التصميم والرسوم والمونتاج والترجمة والكتابة والبرمجة.
وتظهر في هذا المجال شركات صغيرة تصنع قيمة كبيرة: شركات لإدارة حسابات المتاجر، وشركات لإنتاج الفيديوهات القصيرة، وشركات للتسويق الرقمي، وشركات لإدارة صفحات المؤسسات، وأخرى للرسوم المتحركة، ومكاتب صغيرة تعمل بالكامل عبر الإنترنت ولا تحتاج إلى مقر أو رأس مال كبير. وهذه الشركات، حين تتكاثر، تخلق اقتصادًا موازيًا داعمًا لاقتصاد الدولة، قائمًا على مبادرات فردية تتسع لتصبح صناعة كاملة.
والذكاء الاصطناعي يمنح هذا القطاع دفعة هائلة. فالأدوات الجديدة تتيح تسريع الإنتاج، وتخفيض التكاليف، ورفع الجودة، وفتح أبواب جديدة لم تكن ممكنة. فصانع المحتوى يمكنه أن ينتج خمس حلقات في يوم واحد، والمصمم يمكنه أن يبني عشرات المقترحات، والمعلّم يمكنه أن يصنع دورات كاملة، ورائد الأعمال يمكنه أن ينشئ متجرًا رقميًا في ساعة واحدة. وهذه السرعة تخلق اقتصادًا قائمًا على المعرفة والمهارة أكثر مما يقوم على المصانع التقليدية.
ولعل أهم ما في الاقتصاد الإبداعي أنه يعيد للشباب الثقة في أنفسهم. فبدل انتظار الوظيفة الحكومية، أو الهجرة، أو القبول بفرص ضيقة، يمكن للشاب أن يصنع عمله بنفسه، ويبني دخله، ويشارك في الاقتصاد الوطني بطريقة مباشرة وبسيطة. وفي بلد مثل السودان، حيث نسبة الشباب عالية، يصبح هذا القطاع فرصة وضرورة في الوقت نفسه، لأنه يحول الكثافة السكانية إلى قوة إنتاجية.
ومن هنا يصبح الاقتصاد الإبداعي جزءًا أساسيًا من أي نهضة حديثة. فهو لا يحتاج إلى رأس مال ضخم، ولا إلى مصانع، ولا إلى منظومات تشريعية ثقيلة، بل يحتاج إلى بيئة رقمية، وإنترنت مستقر، ودفع إلكتروني، وتدريب بسيط، ورؤية تجعل من الطاقات البشرية ثروة لا عبئًا. وهذا النوع من الاقتصاد قادر على خلق آلاف الشركات الصغيرة التي تملأ الفجوات في السوق، وتدعم القطاعين الزراعي والصناعي، وتربط الأعمال ببعضها، وتعيد تشكيل صورة السودان في الداخل والخارج.
وهذا المقال يأتي خطوة حادية عشرة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا نعيد فيها تصور علاقة السودان بالرقمنة، ونوضح كيف يمكن للاقتصاد الإبداعي، بمساندة الذكاء الاصطناعي، أن يكون جسرًا قويًا بين الشباب والسوق، وبين الموهبة والدخل، وبين الحلم والواقع.




