الناظر / مصعب بشير الشريف يكتب: إرساء إطار قانوني جديد ينهض بدور الإدارة الأهلية ويعزّز وحدة البلاد. (١ _ ١)

الناظر / مصعب بشير الشريف يكتب: إرساء إطار قانوني جديد ينهض بدور الإدارة الأهلية ويعزّز وحدة البلاد. (١ _ ١)
تستعد البلاد لعقد ورشة عمل مهمة لمناقشة قانون الإدارة الأهلية، وهي مناسبة تستحق الوقوف عند هذا النظام الاجتماعي العريق الذي شكّل جزءًا أساسيًا من بنية المجتمع السوداني عبر قرون طويلة. فمنذ بدايات الدولة السودانية، لعبت الإدارة الأهلية دورًا محوريًا في تنظيم المجتمعات الريفية، وفضّ النزاعات، وحماية الموارد، وحفظ السلم الاجتماعي في مناطق واسعة كان حضور الدولة فيها ضعيفًا أو محدودًا.
لقد نشأت الإدارة الأهلية في سياق تاريخي كانت فيه القبيلة الإطار الرئيس للهوية والانتماء، وكانت الأعراف وسيلة لضبط العلاقات بين المجموعات المختلفة. ومع تعاقب الحقب المختلفة وما بعد الاستقلال، تطورت الإدارة الأهلية بأشكال متعددة، وظل تأثيرها حاضرًا في إدارة الأرض والزراعة والمراحيل، وحل الإشكالات اليومية بين المجتمعات.
غير أن دخول السودان إلى القرن الحادي والعشرين، وتوسع المدن، وانتشار التعليم، وبروز مفهوم الدولة الحديثة، كلها عوامل أفرزت حاجة مُلحّة إلى إعادة قراءة هذا التراث بما يجعله متوافقًا مع القوانين والمؤسسات المعاصرة. فالزمن تغيّر، والمجتمع أصبح أكثر تنوعًا وتعقيدًا، ولم تعد الآليات التقليدية وحدها قادرة على تلبية احتياجاته.
*لماذا النقاش حول قانون جديد للإدارة الأهلية مهم؟*
١. لأن الإدارة الأهلية ما تزال مؤثرة في مناطق واسعة وهي بحاجة إلى إطار قانوني واضح يحدّد صلاحياتها وينظّم علاقتها بالأجهزة الرسمية.
٢. لأن لديها خبرة اجتماعية متراكمة يمكن تحويلها إلى رصيد إيجابي في مجال المصالحات وحماية النسيج الاجتماعي.
٣. لأن بعض المناطق الريفية تعاني فراغًا إداريًا يجعل من الضروري وجود آليات عرفية مُساندة، لا بديلة لمؤسسات الدولة.
٤. ولأن الدولة الحديثة تسعى إلى ترسيخ المواطنة فإن تطوير الإدارة الأهلية يجب أن يتم بما يعزّز سيادة القانون، ويحصر دورها في الجوانب الاجتماعية والثقافية بعيدًا عن السياسية والحزبية.
*نحو رؤية مستقبلية متوازنة:*
التحدي ليس في الإبقاء على الإدارة الأهلية أو تجاوزها، بل في إعادة تعريف دورها بما يعزز الاستقرار ويخدم مشروع الدولة الحديثة. ويمكن تلخيص هذا الاتجاه في النقاط الآتية:
* تقنين واضح للصلاحيات بما ينسجم مع الدستور والقانون.
* منع تسييس الإدارة الأهلية وحصر أدوارها في الشأن الاجتماعي والعرفي.
* دمجها في جهود المصالحات المحلية بصيغة مؤسسية لا تعتمد على الفرد.
* تعزيز التنسيق بينها وبين المجالس المحلية بما يحقق التكامل لا التعارض.
* الاستفادة من خبراتها التقليدية في إدارة الموارد والمسارات وحل النزاعات الريفية.
إن انعقاد ورشة قانون الإدارة الأهلية يمثل فرصة تاريخية لإعادة صياغة هذا النظام العريق بما يجعله جزءًا من المستقبل، لا أسيرًا للماضي. فالإدارة الأهلية ليست مجرد مؤسسة اجتماعية تقليدية، بل رصيد ثقافي واجتماعي يمكن أن يسند مشروع الدولة الحديثة إذا وُضع في إطار قانوني رشيد ورؤية وطنية تُعلي من شأن المواطنة وسيادة القانون.
إن بناء سودان جديد يتطلب تحديث البنى التقليدية، لا بإلغائها، بل بتطويرها بما يواكب العصر ويحترم قيم المجتمع وتنوعه.




