إبراهيم شقلاوي يكتب: أحمد هارون… رسائل تربك الخصوم

إبراهيم شقلاوي يكتب: أحمد هارون… رسائل تربك الخصوم
في مسرح السياسة السودانية، حيث تسود براغماتية التوازنات وسعي الفاعلين إلى إعادة إنتاج النفوذ ، يبرز الإسلاميون كتيار سياسي قادر على إعادة
التموضع وتفعيل أدواته بمرونة ، متجاوزًا محاولات الرباعية الدولية لإعادة تشكيل المشهد بمعزل عن الداخل. هذه الفاعلية تعكس استراتيجية تراكمية
للحركة الإسلامية، تعرضنا لها في مقالنا السابق “هندسة الرباعية وتكتيكات الإسلاميين”. في هذا المقال، نتناول دلالات الظهور المفاجئ لأحمد هارون، ورسائله التي أربكت الخصوم وأعادت خلط الأوراق .
جاء الظهور الإعلامي المحسوب لرئيس حزب المؤتمر الوطني، أحمد هارون، عبر وكالة “رويترز”، كتحرك تكتيكي يحمل بعدًا استراتيجيًا. لم يكن فقط تصريحا صحفيا، بل رسالة موجهة للخارج أكثر من الداخل، وتحديدًا للرباعية التي تسعى لانتقال سياسي يستبعد
الإسلاميين، تحت تصور أنه المدخل لتحقيق الاستقرار. إلا أن الإسلاميين يرون في ذلك تبسيطًا مخلًا بالواقع وتعقيداته، من شأنه تعميق الأزمة السياسية لا حلها.
اختيار “رويترز” لم يكن عشوائيًا. فالحزب الذي حكم السودان لعقود يدرك قيمة الوسيلة الإعلامية ووقعها، ويعرف أن المنصة جزء من مضمون الرسالة. عبر هذه
الوكالة ذات المصداقية والانتشار، وجّه هارون رسالة مفادها: “نحن حاضرون ولن نُقصى من المعادلة، لا اليوم ولا غدا”، في إشارة واضحة لبعض الدوائر الدولية والإقليمية التي تتصور خلاف ذلك.
الرسائل التي حملتها المقابلة جاءت في سياق خطاب مزدوج. داخليًا طمأن أنصاره بأن المؤتمر الوطني لا يزال موجودًا، رغم الحظر والسقوط وحملات الشيطنة، بل ويعيد ترتيب صفوفه بما يتواءم مع
متطلبات المرحلة. خارجيًا، قدّم الحزب كقوة سياسية منضبطة، منفتحة على التعاطي مع المرحلة الانتقالية، لكن وفق شروط متكافئة لا إملاءات فوقية.
منذ سقوط نظام البشير في العام 2019 ، سعت قوى دولية لفرض نموذج سياسي “جاهز”، يعيد تشكيل الدولة وفق رؤية ليبرالية مدنية تحت غطاء دولي،
يستبعد الإسلاميين ويعمل على تجريمهم. إلا أن التيار الإسلامي واجه ذلك بمنهج مزدوج، يجمع بين التريث والكمون من جهة، والعمل في الهامش بانتظار اللحظة المناسبة من جهة أخرى.
تصريحات هارون جاءت ضمن هذا السياق، متبنيًا خطابًا عقلانيًا يتحدث عن صناديق الاقتراع، ودور الجيش في المرحلة الانتقالية، وإمكانية التوافق الوطني، في محاولة لإعادة تقديم التيار الإسلامي كقوة راغبة في الاستقرار، لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها.
اللافت في رؤية هارون، تمسكه بدور طويل الأمد للمؤسسة العسكرية، ضمن صيغة “حكم هجين” يُبقي على السيادة العسكرية مؤقتًا حتى زوال التهديدات.
وهي ليست دعوة لحكم عسكري صريح، بل اقتراح لنموذج سوداني خاص يوازن بين المدني والعسكري، ويُعبّر ضمنيًا عن رفض للنموذج الغربي الذي تحاول الرباعية تسويقه كحل جاهز.
أما اقتراحه إجراء استفتاء شعبي لاختيار قائد عسكري في الغالب يعني البرهان، فيُعد تكتيكًا رمزيًا ذكيًا، يمنح الوجود العسكري غطاءً شعبيًا، ويربك
حسابات الرباعية التي تسعى لحصر الشرعية في معسكر القوى المدنية. كما يمثل محاولة لتجاوز الضغوط الدولية والإقليمية المستمرة على الجيش السوداني لاستكمال عملية الانتقال.
المقابلة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، وسط فراغ سياسي وتضعضع في التحالفات، وعجز القوى المدنية عن تقديم بديل مقنع. وفي هذا المناخ، يطلّ التيار الإسلامي عبر هارون كطرف “ناضج سياسيًا”، يعرض
نفسه كشريك في صياغة مستقبل البلاد ، بلا تبعية لأي مشروع خارجي يتجاهل جذوره الاجتماعية ورصيده السياسي وتأثيره في الساحة السودانية.
ضمن هذا السياق، يمكن فهم نفيه الذكي للتقرير الذي أوردته “رويترز” بشأن دعم الإسلاميين للجيش بـ”آلاف المقاتلين”. فقد جاء النفي بعيدًا عن التبرؤ الكامل، ليحافظ على رواية متوازنة: “ندعم الجيش،
لكن لا نتحكم فيه”. وهو تموضع حذر يحاول ضبط المسافة بين الدعم السياسي والمشاركة العسكرية، لتفادي أي انزلاق قد يضر بصورة التيار الإسلامي أمام المجتمع الدولي لاحقًا.
هذا التحرك، سواء أكان تحولًا استراتيجيًا أم تكتيكًا مرحليًا، يكشف عن وعي متقدم لدى الإسلاميين بضرورة استخدام أدوات جديدة وخطاب مرن واقعي، للعودة إلى المشهد. إلا أن نجاح هذا المسار مرهون بقدرة الأطراف السياسية والعسكرية على بناء مشروع
وطني جامع، يضمن شمول العملية الانتقالية من دون إقصاء، ويمنع في الوقت نفسه إعادة إنتاج النظام السابق بصورة منفردة. وهذه المعادلة تمثل مفتاح الانتقال السياسي الحقيقي، وضمانة لتحييد تدخلات الرباعية.
يتّضح من خلال #وجه_الحقيقة أن المشهد السياسي السوداني يمرّ بمرحلة بالغة التعقيد منذ الإطاحة بالبشير . ففي حين تنخرط الرباعية “الولايات
المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات” في محاولات لإعادة ترتيب التوازنات تحت شعار “وقف الحرب”، يعتمد الإسلاميون استراتيجية “الأرض
الباردة”، التي تقوم على التريث، واستثمار السيولة السياسية، ترقّبًا للحظة التشكّل الجديد. لحظة لا تُترك للصدف، بل تُبنى برسائل متدرجة، ومناورات تكتيكية محسوبة، وربما عبر صناديق الاقتراع في المستقبل القريب.
دمتم بخير وعافية.
Shglawi55@gmail.com