على هامش “معرض الترحال من منظور جديد”.. جلسة نقاشية تقوّض الصور النمطية عن الرعاة الرحّل
“عندما دعيت، منذ ما يقرب من عامين، للمساعدة في تقديم المشورة بشأن المعرض، شعرت بسعادة غامرة، إذ إنه يأتي تعبيرا عن تجربة شخصية قمت بها منذ عقود عندما كنت عالمة أنثروبولوجيا في مقتبل العمر، وعشت مع مجموعة من رعاة الأغنام والإبل السابقين في الصحراء الغربية لمصر وتحديدا مع قبيلة أولاد علي في صعيد مصر”.
بهذه الكلمات استهلت البروفيسورة ليلى أبو لغد، عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا الأميركية حديثها في الجلسة النقاشية، التي عقدت أمس الخميس على هامش معرض “الترحال من منظور جديد” في متحف قطر الوطني، والذي افتتح أول أمس الأربعاء ويستمر حتى 14 يناير/كانون الثاني المقبل، بمشاركة آنجا فيشر، الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة فيينا، وإليزابيث تورك الباحثة والمحاضِرة في قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة كامبريدج.
ويسلط المعرض الضوء على جمال وتعقيدات الحياة الاجتماعية للرعاة الرحل الذين يتنقلون بحثا عن الماء والمراعي، كما يركز على استكشاف حياة الرعاة الرحل وشبه الرحل في 3 مناطق متميزة، وهي الصحراء الوسطى، وقطر، ومنغوليا وما تتضمنه تلك الحياة من مظاهر متعددة.
ويضم المعرض أكثر من 400 قطعة فنية تشمل لوحات، وصورا تاريخية، ولقطات أرشيفية، بالإضافة إلى التصوير الفوتوغرافي المعاصر، ويستكشف كيف أنشأت هذه المجموعات حياة اجتماعية غنية ذات مغزى، وحافظت عليها، وشكلت أنماطا ثقافية عميقة وجميلة في بيئات مليئة بالتحديات.
الرعاة ليسوا بقايا الماضي
وقالت أبو لغد في تصريح للجزيرة نت إن تجربتها مع متحف قطر الوطني متميزة، إن توفر لها منصة لمشاركة تجاربها الحياتية في علوم الإنسان والخروج بالمعرض بهذه الصورة المختلفة، التي تركز على أنماط الحياة في 3 مجموعات مختلفة من العالم، بما تتضمنه هذه المجتمعات من مزايا وجوانب لا بد من إظهارها للجيل الحالي.
وأضافت “لم يكن لدينا موضوع واضح مع بدء العمل في المعرض، فقط كان لدينا 3 مناطق، وكنا ملتزمين بالحفاظ على التواريخ والظروف المحددة لكل المجتمعات التي قمنا بتضمينها في المعرض، لإظهار الترحال عند الرعاة في هذه البيئات الثلاث وما يصاحب ذلك من مظاهر حياتية للتأكيد على أنهم ليسوا من بقايا الماضي”.
وأشارت أبو لغد إلى أن المعرض يركز على كل ما هو خطأ في التخيلات، سواء السلبية أو الإيجابية، حول هذه المجموعات التي تتحرك من أجل كسب عيشها وممارسة الرعي وتربية الماشية، فهم ليسوا لاجئين أو مهاجرين مجبرين على الانتقال، حتى لو كان البعض للأسف قد نزحوا بالفعل إلى مخيمات اللاجئين أو المدن.
وخلال الجلسة النقاشية، انتقلت أبو لغد للحديث عن أحد مظاهر الرعاة المتنقلين وشبه المتنقلين، موضحة أن الخيام التي كانوا يعيشون فيها لم تكن روائع معمارية، بل كانت مجرد أماكن يتحدث فيها الناس، ويسترخون ويتجادلون ويغنون ويطبخون ويغزلون الصوف ويضحكون ويعانقون الأطفال، فقد كان ما يحدث بين الناس هو المهم.
وتحدثت أبو لغد عن تأثرها بمحاضرة لأستاذها الجامعي بول ريسمان في عام 1973، والتي جعلتها تود أن تكون عالمة أنثروبولوجية، وأن تعيش مع الرعاة الرحل وتقترب منهم أكثر، مشيرة إلى أن المطاف انتهى بها للعمل في مصر، مع رعاة مستقرين يتحدثون العربية ولا يزال لديهم قطعان من الأغنام وبعض الجمال.
ولفتت أبو لغد أن اهتمامها امتد إلى الطوارق، وأضحت تعرف المزيد عنهم، بما في ذلك الموسيقى السياسية المقنعة للفرق الموسيقية الشهيرة مثل “تيناروين” (Tenariwen) التي تُعزف الآن على المسرح العالمي، وهي متوفرة بالمعرض حاليا ويمكن للجمهور الاستماع إليها، موضحة أن ما يتضمنه المعرض ما هو إلا غيض من فيض حياة المجتمعات الثلاثة.
قيم وفضائل مجتمعات الإموهار
من جهتها، قالت الدكتورة آنجا فيشر، الحاصلة على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة فيينا، إنها ركزت في دراساتها على منطقة الصحراء الكبرى، وحياة الرعاة الذين يعيشون فيها مثل قبيلة أبي أحمد في صحراء الجزائر، كما أجرت دراسة ميدانية استمرت 10 سنوات على الرعاة المتنقلين في مخيمات الإموهار (الطوارق) في الصحراء الوسطى.
وتابعت فيشر “أكثر من مليونين من الطوارق يعيشون في منطقة تبلغ مساحتها مليوني كيلو متر مربع في الصحراء الوسطي بين ليبيا ومالي وبوركينافاسو”، موضحة أن هناك أكثر من 150 مجموعة بشرية تعيش في هذه المنطقة الواسعة بين الأدوية والأماكن الجبلية.
وقالت فيشر، في تصريح للجزيرة نت، إن الهدف من تصوير حياة الإموهار في المعرض يركز على الاستفادة من الفضائل والمزايا التي يتحلون بها مثل كرم الضيافة والعمل الجماعي والتفاني في العمل، وهي مميزات ربما يعتقد البعض أنها قد تكون غائبة عن هذه المجتمعات.
وأضافت أن المعرض فرصة للتعبير عن ثقافات مختلفة من العالم وإظهارها بصورة منظمة والعمل على الاستفادة من أسلوب معيشة هذه المجتمعات، والتي كان فيها حرص شديد على الموارد البيئية.
وأشارت فيشر، خلال الجلسة النقاشية، إلى أن مجموعات الإموهار كانت تعيش في مخيمات مصنوعة من الجلد على مساحات كبيرة، وهي تلك الخيام المعروضة في المعرض حاليا، كما أنه في بعض الأيام يتم اللجوء إلى صناعة المساكن باستخدام الخشب ولم يكونوا يستخدمون الأسرّة للنوم، فقد كان التنقل هو سمة حياتهم.
التاريخ المنغولي ثقافة تتطور مع العصر
وتحدثت إليزابيث تورك، الباحثة والمحاضِرة في قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة كامبريدج، خلال الجلسة النقاشية، عن دراستها الموسعة في منغوليا، والتي تناولت فيها موضوعات مختلفة تتصل بالعلاقة بين مجالي الأنثروبولوجيا الطبية والأنثروبولوجيا البيئية، مؤكدة أنه بعد عقود من الأبحاث والدراسات في منغوليا يمكن القول إن التاريخ المنغولي ثقافة مستقلة بذاتها “تتطور مع الحضارة وليست شيئا ثابتا.”
ورأت تورك أن المعرض يعد فرصة لتغيير الصورة المنطبعة بالأذهان عن المنغوليين، من خلال عرض صور ونماذج حياتية عنهم، فالرعاة المنغوليون يتسمون بالعمل الجماعي ويعيشون في مواقع قريبة من بعضها، موضحة أن هناك تحديات تواجههم ذات صلة بالرأسمالية.
وأوضحت أنه في بداية العقد الأخير من القرن الماضي أنشأت الحكومة اقتصادا متعدد الموارد تأثرت به هذه المجموعات، وتعرضت كثيرا من مصادر الحياة لديهم لتهديد حقيقي، كما انتقلت ملكية أكثر من 70% من الأراضي التي كانوا يعيشون عليها إلى الحكومة، وتعرضت للتجريف.