صلاح الدين عووضة يكتب : ليه؟!

صلاح الدين عووضة يكتب : ليه؟!
ليه؟!
جمعة سعيدة..
ومن غير ليه؛ كما قال الشاعر الجميل مرسي جميل عزيز..
وكما غناها محمد عبد الوهاب:
جايين الدنيا ما نعرف ليه… مشاوير مرسومة لخطاوينا
وكأنما هذه الكلمات – من هذه الأغنية – مكتوبة فينا كسودانيين..
وفي شخصي تحديداً..
ولماذا شخصي بالذات؟…. من غير ليه..
أو ربما يكون الرد لأنني جردت حساب مسيرتي؛ فوجدته حساب الجميع..
جميع من شاطروني مسيري نفسه..
فأكون – من غير ما أشعر ويشعرون – جردته بالنيابة عنهم..
وليس جرداً مالياً بالطبع..
فطوال عمري ما كنت امتلك مالاً يستحق الجرد… أو ينتظر أن يُجرد..
وإنما أعني جرداً للذكريات..
ما هو صادقٌ منها… وما هو أليم؛ بعكس من قال (الذكريات صادقة وجميلة)..
وهذه حالة فريدة من بين ذكريات شعرائنا..
ويبدو أنّ حاله لا يطابق حالي… من بعد جرد أجراه لذكرياته القريبة والبعيدة..
فوجدها جميعاً صادقة وجميلة… لا صادقة وأليمة..
وفي رواية أخرى يُنسب إلى الشاعر قوله: الذكريات صادقة ونبيلة..
فهل كل الذكريات نبيلة؟… وهل كلها جميلة؟..
وأنا أجريت جرداً لذكرياتي… فوجدت الأليم منها كثيراً… والسعيد قليلا..
وغالب السعيد منها هذا كان أيام الطفولة..
ومن شدة قلتها – السعيدة هذه – بت قادراً على أن أحصيها عددا..
أما الأليمة فلا تعد… ولا تحصى..
وسبب كلمتي هذه اليوم عثوري على كراسة ذكريات – ومذكرات – قديمة..
فهالني مبلغ ما حوته من ألم..
حتى الذكريات الخاصة بلقاءات كروية معظمها أليم..
كل ذلك – وحادثات أخرى – وجدتها مدونة على دفتر ذكرياتي الأليمة..
ومنها ما هو غير مدون… إلا في الذاكرة..
بل ليته انمحى من الذاكرة هذه نفسها… كبعض ذكرياتٍ مجتمعية موجعة..
فكثيرٌ ممن كنت أحسبهم أصُدقاء صُدمت فيهم..
صُدمت إلى الدرجة التي تساءلت معها: أتراني حالة شاذة في دنيا العلائق؟..
وحتى في هذه الذكريات كان هناك ما هو أشد إيلاماً..
مثل أن أُلدغ من شخص أسديت له جميلاً بما هو أشد ألماً من لدغة عقرب..
أو أن يؤذيني أحدٌ أحببته لوجه الله..
أو أن أُفاجأ بمن أتعامل معه بوجه يعاملني بوجهين..
أو ربما أكثر؛ فهو يملك عدة وجوه..
وكل ذكرياتي الأليمة هذه تهون إزاء ما هو أفظع؛ إزاء ذكريات السياسة..
فقد تفتح وعيي السياسي على انقلاب نميري..
ومنذ ذلكم الحين لم أعش لحظات سعادة سياسية… إلا قليلا..
ومن هذا القليل ذكرى ثورة أبريل..
ثم سرعان ما تكدرت سعادتي هذه حين رأيت السياسيين يتجاذبونها طمعاً..
رغم إنها كانت من صنع أيدينا نحن الشباب..
بينما هم – كما وصفتهم قبلاً – كانوا يكتفون بالفرجة من على الشرفات..
ثم غدت السعادة هذه ألماً..
وذلك حين اختطف البشير جمل الثورة – بما حمل – لنحو ثلاثين عاماً..
تخيل؛ ثلاثة عقود خُصمت من أعمارنا..
وخُصمت – كذلك – من سعادةٍ كنا نرتجيها في ظل وضعٍ ديمقراطي..
ثم سعدت – وأنا كبير – بثورة ديسمبر..
ولم تدم سعادتي – هذه المرة – سوى أشهر؛ أبصرت بعدها الفشل… والألم..
فحتى ذكرياتي السياسية أليمة دوماً..
وحتى إن تبدّد الألم – بفعل السنوات – تبقى الذكريات هذه..
أو (تفضل) الذكريات؛ كقول الشاعر:
ما فضل غير أغنياتي
فيها أكتــب ذكــرياتي
ويبدو أنها تماثل ذكريات شاعر آخر شعرٍ بالألم نفسه حيال محبوبته..
وهو القائل:
لما إنت خلاص جفيتني
ليـــه بتحكي الذكريات؟
وربما رد عليه المحبوب: من غير ليه..
علماً بأنّ الديمقراطية – في المقابل – هي محبوبتي..
ولكنها تفتأ تدمن مجافاتي؛ من لدن ربيع عمري… وإلى خريفه هذا..
ورغم تنكرها الدائم هذا لي تسعد بذكرياتنا..
ذكريات ينطوي جوفها على جدل الحب المستديم… والغدر الأليم..
فأليمةٌ هي ذكرياتي السياسية دوماً..
وذكريات من شاطروني المسير نفسه؛ عمراً… وألماً… وغدراً..
ولكنها تأبى إلا أن تطرقني..
أو يُخيل إلي أنها تطرقني وحدي… دوناً عن الكل… عن الجميع..
وربما لو سألتها عن السبب لقالت: من غير ليه..
ومن ثم أقول لها – متسائلاً – ما قاله شاعرنا هذا لحبيبته مستعتباً:
من غير أن ترد على تساؤلي هذا بعبارة من غير ليه..
إنت لو راضي البعاد..
ليـــه بتحكي الذكريات؟..
هل قلت في بداية كلمتنا هذه: جمعة سعيدة؟..
ليييه؟!.
المصدر : الصيحة





