درس في بناء الدول.. هكذا أسس الفاطميون وجودهم في المغرب
درس في بناء الدول.. هكذا أسس الفاطميون وجودهم في المغرب
لما توفي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام، عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محنا شديدة. بعد سنوات أرسل إليه ذراعه اليمنى أبو عبد الله الداعي الشيعي سفراءه يخبرونه بما وصلت إليه دعوتهم من القوة. فعرف العباسيون الخبر، وأصدر الخليفة المكتفي أمرا بالقبض على المهدي ففرّ من أرض الشام الى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم الذي سيلقب بالقائم فيما بعد.
في مصر لبس المهدي لبس التجار، واستطاع الهروب من الإسكندرية إلى برقة ومنها إلى طرابلس ثم جنوبا إلى سلجماسة في المغرب الأقصى حتى قبض عليه بنو مدرار امتثالا لطاعة العباسيين، وفي السجن كان المهدي ينتظر أخبار أنصاره في المغرب الأوسط “الجزائر” وتقدمهم وانتصاراتهم، حتى وصل أبو عبد الله الداعي إلى سلجماسه وأخرج زعيمه من السجن ومشى مع رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيّم، وأقاموا في مدينة سجلماسة أربعين يوما ثم ارتحلوا إلى تونس، ومرّوا بمدينة أيكجان بالجزائر، فسلّم الداعي أبو عبد الله الشيعي ما كان بها من الأموال والذخائر لسيده المهديّ. ثم نزلوا مدينة رقّادة في “أفريقية” تونس في ربيع سنة 297هـ، وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامّة إماما للدولة الفاطمية العبيدية[1]!
خضعت بلاد المغرب لحكم العباسيين بعد إسقاطهم لدولة الأمويين في عام 132هـ، وبسبب الصراع بين الهاشميين والعباسيين على الزعامة السياسية والدينية، واضطهاد العباسيين للهاشميين لاسيما المعارضين منهم للخلافة العباسية؛ فقد فرّ بعض هؤلاء الهاشميين إلى أطراف العالم الإسلامي بعيدا عن مراكز الدولة السياسية والعسكرية والمراقبة الأمنية.
كان الأدارسة الذين يُنسبون إلى إدريس الأول بن عبد الله الذي يعود نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، أول من أسس دولة مستقلة من الفرع العلوي الهاشمي في المغرب الأقصى سنة 173هـ/789م في فترة مبكرة من حكم العباسيين، وحذا حذوهم ذوو قرباهم من الزيدية في بلاد اليمن[2].
الإسماعيليون في المغرب
ومن الملاحظ أن البربر أهل المغرب من برقة “ليبيا” وأفريقية “تونس” حتى طنجة في المغرب الأقصى قد عانوا من تهميش الدولة العباسية لهم، وفرض الضرائب الباهظة عليهم من قبل بعض الحكام المحليين المعينين من قبل العباسيين، وعلى رأسهم أسرة الأغالبة في تونس، والتاريخ يقدم لنا صورتين متناقضتين للوالي الأغلبي إبراهيم بن أحمد الأغلبي (261- 289هـ/874- 902م) والي أفريقية تونس المدين بالولاء للعباسيين في القرن الثالث الهجري[3].
فالبعض يصفه بأنه كان مجاهدًا حازمًا ذا فطنة بلغت الإمارة الأغلبية أوج مجدها ورقيها على أيامه ومن هؤلاء المؤرخين ابن الأثير وابن خلدون وابن أبي دينار. بينما يقدم له البعض الآخر صورة مغايرة فيصفه بالجور وسفك الدماء والقسوة والاستبداد وانعدام المعاملة الحسنة بينه وبين رعيته، بل بينه وبين أفراد أسرته وأبنائه أنفسهم، الأمر الذي سبب غضب القبائل وثورتها عليه، وظهور حركات التمرد في عدة جهات متعددة من البلاد[4].
في المقابل استثمر الإسماعيليون الباطنية وعلى رأسهم أبو عبد الله الشيعي الكوفي هذه البيئة من المظلومية، وتهميش دور البربر السياسي في جسد الدولة العباسية فعمل على بث دعاته الذين نشروا بين الناس أن المهدي الذي سيخلصهم من ظلم العباسيين وولاتهم حي قائم[5]. يقول المقريزي: “انتشرت حينئذ جنود أبي عبد الله في البلاد، وصار يقول: المهدي يخرج في هذه الأيام، ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إلي، وأطاعني”[6].
ويجب أن نعرف أن نشاط الدعوة الشيعية الإسماعيلية كان بارزا طوال القرن الثالث الهجري/ الثامن الميلادي، تزامن هذا النشاط مع ضعف العباسيين وسيطرة العسكر على مقاليد الدولة العباسية؛ لذا كانت الدعوة إلى المذهب والأفكار الشيعية والمظلومية التي عانى منها العلويون بمختلف فروعهم على يد الأمويين ثم العباسيين هي التي سبقت مرحلة قيام الدولة الشيعية في كل من فارس والعراق واليمن والمغرب ثم مصر فيما بعد وهو القرن الرابع الهجري الذي أطلق عليه المؤرخون عصر انتصار الشيعة، وقد تناولنا في تقرير سابق دور الدعوة الإسماعيلية في تأسيس الدول المناهضة للحكم العباسي والسني بعامة حين عرضنا للحشّاشين في إيران والشام.
تمكن أبو عبد الله داعي دعاة الإسماعيلية في المغرب من بسط سيطرته السياسية والعسكرية على رقعة جغرافية كبيرة في بلاد المغرب في فترة استمرت ما يقرب من عشرة سنوات انضمت إليه قبائل البربر في تلك المناطق، ثم اتخذ من منطقة إيكجان قرب قسنطينة في الجزائر مركزا لنشر دعوته الدينية الإسماعيلية الشيعية، ومركزا عسكريا لضم المناطق المحيطة[7].
يقول القلعي في كتابه “أخبار بني عُبيد”: “لما تمّ لأبي عبد الله (الداعي) ما أَرَادَ قاد الأجناد والأنجاد، واستفتح المدن وملك البِلَاد، وبنى بموضع يعرف بإيكجان على مقربة من قسنطينة مدينة وسماها دار الهجرة وسمى أتباعه وأشياعه من كتامة وغيرهم المُؤمنِين، وإِذا ركب نَادَى مناديه فِي الجيش: يا خيل الله اركبوا”[8].
حين ترسخ الوجود الإسماعيلي وصار له قوة إقليمية رادعة، أرسل أبو عبد الله إلى عبيد الله المهدي الذي كان يدعو له، في سلمية بالشام – مركز الدعوة الإسماعيلية الحصين – أن يأتيه باعتباره رأس الدعوة وإمامها آنذاك، وبالفعل انطلق إليه المهدي، وبالرغم من القبض عليه من قبل دولة بني مدرار في المغرب الأقصى الذين امتثلوا لأمر العباسيين فإن أبا عبد الله تمكن من إطلاق سراح سيده حين استولى على هذه المناطق[9].
كان وجود دولة الأدارسة العلويين في المغرب الأقصى ووجود تسعة إمارات شيعية صغيرة في المغرب الأوسط “الجزائر” من قبل مجيء الإسماعيليين قد هيأ الأرض لتقبل وجود دولة شيعية جديدة، قامت في الأساس على أكتاف قبيلة كتامة أكثر القبائل البربرية عددا وأصعبها مراسًا، فقد كانت تسكن جبل أوراس الوعر في جنوب تونس “أفريقية” في بلاد ممتدة من طرابلس الغرب “عاصمة ليبيا الآن” إلى طنجة في المغرب[10].
عقب ذلك بقليل، تمكن أبو عبيد الله الداعي الشيعي من هزيمة دولة الأغالبة في تونس، وهي الدولة التي كانت تستقل عن الخلافة العباسية لكنها في الوقت ذاته تدين لها بالولاء والسيادة السياسية والدينية بعد حكم استمر مائة واثني عشرة سنة منذ ولى الخليفة هارونُ الرشيد حكم الأغالبة لأفريقية “تونس” لزعيمهم الأول إبراهيم بن الأغلب سنة 184هـ، لتستقر في يد الفاطميين فيما بعد منذ سنة 296هـ[11].
الخليفة الفاطمي الأول
وبهذا الانتصار تمكن الثوار الإسماعيليون من السيطرة على رقعة جغرافية هائلة شملت معظم بلاد المغرب، وبمجيء عبيد الله المهدي ودخوله مدينة رقّادة في إفريقية “تونس” فقد تم إعلانه رسميًا “خليفة” في ربيع الآخر 297هـ/ (يناير/كانون الثاني) 910م، ما يعني تهديدًا وجوديًا للدولة العباسية، وهو التهديد الذي أجبر الأمويين القريبين في الأندلس بعد ذلك بسنوات قليلة على إعلان الأمير عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة للمسلمين هنالك[12].
في خطاب تنصيبه على العرش الجديد حدّد عبيد الله المهدي أنه سيكون معتدلا وصارمًا في الوقت ذاته، وأن رعايته وحفاوته ستشمل “أشياعه من المؤمنين وجميع المسلمين، وسيراعي أولياءه ورعاياه الأوفياء المخلصين، وسيقمع كل من ينكت عليه، ويخون أمانته وينقض عهده”[13]. وتحديده “جميع المسلمين” كان يعني عالمية المشروع الإسماعيلي الذي قام في الأساس على مناهضة المشروع العباسي في المشرق والأموي في المغرب والأندلس، وقد وضع عبيد الله المهدي لدولته الناشئة نظامًا مذهبيًا يشدّ أزر التنظيمات السياسية والإدارية التي اتخذها، فالدولة الفاطمية الوليدة قامت على أساس مذهبي إسماعيلي، فآل البيت أحق الناس بزعامة المسلمين، وفرض سيادتها انطلاقًا من هذا الأساس، وتحقيق المفاهيم الإسماعيلية الشاملة، واستتبع ذلك رفع شأن الحاكم، فهو خليفة الله في الأرض، وهو المنحدر من نسل فاطمة بنت رسول الله، وهو – طبقا لتعاليم الإسماعيلية – نبي زمانه؛ ليقيم شريعته، ويربط الصلة بينه وبين عباده، وقد اعتمد أيضا معادة السنة بسب الصحابة وتغيير الأذان وغير ذلك[14].
في المقابل شرع المهدي يرسخ من وجوده السياسي والإداري بتقسيم الولايات، وإقامة الدواوين المالية، لكن اللافت والأهم والمتكرر في التاريخ دوما هو التخلص من الأعوان الأقوياء الذين قامت الدولة الجديدة على أكتافهم، ومثلما تخلص العباسيون من أبي مسلم الخرساني القائد المحنك صاحب الانتصارات العسكرية التي مكنتهم من رقاب الأمويين، فقد تخلص عبيد الله المهدي من أبي عبد الله الشيعي الذي أقام له الدولة، وأسس له الشوكة!
وفي مشهد مقتله ما يدعو للتأمل، فقد صدر الأمر من المهدي لواليه على منطقة القصر في تونس بقتل أبي عبد الله عند دخوله المدينة، فلما رأى أبو عبد الله سيف إعدامه قال لقاتله: “لا تفعل يا بُني! قال الوالي: الذي أمرتَنا بطاعته أمرَنا بقتلك”! ثم نُفّد فيه وفي أخيه حكم الإعدام وهما أكبر الأذرع الإعلامية والعسكرية للدولة الفاطمية الوليدة في المغرب، على الجانب الآخر في مدينة رقّادة عاصمة الدولة، وبأخلاق الذئاب وبهدوء تام “صلّى المهدي على أبي عبد الله، وقال: رحمك الله أبا عبد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك”[15]!
ترسيخ الوجود الفاطمي
واجه المهدي عدة ثورات من فلول النظام الأغلبي القديم في مدينة القصر، لكنه تتبعهم قتلا وتشريًدا ولم يُبق منهم أحدًا، وتلا ذلك ثورتان كبيرتان في كل من القيروان وطرابلس، ففي القيروان ثارت المدينة في وجه الطغيان الإسماعيلي ممثلا في وجود الكتاميين، الذين كانوا ينقمون على أهل المدينة باعتبارها مركزًا من مراكز التأثير السني القوي في المغرب الأدنى، فضلا عن طمعهم في ثروات المدينة التجارية العريقة، لكن أهل القيروان ثاروا عليهم حين أشهر بعض جنود كتامة السلاح “وأردوا نهب الحوانيت، فصاح أهل الأسواق: النفير النفير، فقُتل من كتامة أكثر من ألف رجل”[16]. الأمر الذي جعل انتقام المهدي غاشمًا حين أنزل عقوبته بحق المدنيين وكبار فقهاء المالكية في المدينة.
وبعد ثورة القيروان ثارت طرابلس الغرب، ثم قبائل زناته وحتى قبائل كتامة الموالية للفاطميين ثارت هي الأخرى حين تعارضت المصالح، ثم ثارت جزيرة صقلية التي فتحها أسد بن الفرات والتي كانت تدين لدولة الأغالبة في تونس بالولاء ومن ورائها الخليفة العباسي في بغداد ثارت ضد حكم الفاطميين، كل هذه الانتفاضات السنية في غالبها كانت مقاومة للوجود الإسماعيلي الجديد والمعادي للسنة بوضوح[17].
رأى المهدي، شأنه شأن أي زعيم دولة قوي في بقعة جديدة أن يبتعد عن مراكز المقاومة والمعارضة للحكم الفاطمي، وكذلك الابتعاد عن مراكز الولاء للأنظمة القديمة، وأن يشرع فورا في بناء عاصمة جديدة، هذه العاصمة التي بدأ في إنشائها بالفعل، سُميت بالمهدية على ساحل البحر المتوسط، واستمر البناء فيها لست سنوات كاملة منذ عام 300 حتى عام 306هـ، يقول ابن خلدون: “مرّ (المهدي) بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كف اتصلت بزند، فاختطّ المهديّة بها وجعلها دار مُلكه، وأدار بها سورا مُحكما، وجعل لها أبوابا من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار”[18].
والحق أن فكرة بناء عاصمة جديدة لم تكن ابتكارا فاطميا فمع كل عصر جديد لدولة ناشئة كانت الحاجة الماسة لإنشاء عاصمة جديدة تدين فكرا وطبوغرافيا للدولة الجديدة. هذه القلعة المحصنة طبوغرافيا كانت المركز الأهم الذي سيؤمن المهدي من خلاله وجوده في المغرب كله، ثم ستكون انطلاقته نحو تحقيق باقي أهداف المشروع الفاطمي الحالم إلى الشرق؛ لذلك حين انتقل المهدي إلى العاصمة الجديدة مع جنده وأمواله أثر عنه قوله: “الآن أمِنت على الفاطميات” وهو وإن كان يعني نساء أسرته، فهو يقصد في أعماق نفسه الأمان الشخصي أولاً، وهو ما تحقق له بالفعل[19].
وهكذا أقيمت الدولة الفاطمية على عدة أسس متينة أولها وأهمها الأيديولوجية الإسماعيلية التي لعبت على المظلومية وتفشي الفساد في منطقة المغرب، وتهميش دور البربر من قبل الولاة العباسيين، تمامًا مثلما همشوا الموالي “الفرس” في المشرق، فأضحت إيران محضنا مهما لرعاية الإسماعيلية لعدة قرون، ثم لعب أبو عبد الله الشيعي الداعي الذكي الفطن على تقريب البربر منه، وتكوين جيوش قوية في المغرب الوسط كانت غاراتها لا تتوقف لعشر سنوات كاملة حتى أسقطت الدولة الأغلبية في تونس، وحلت محلها دولة جديدة ستكون مصر هدفها القادم.